الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
قَالَ: الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ: حَيَاةُ الْجَمْعِ مِنْ مَوْتِ التَّفْرِقَةِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الِاضْطِرَارِ، وَنَفَسُ الِافْتِقَارِ، وَنَفَسُ الِافْتِخَارِ. وَمُرَادُهُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- بِالْجَمْعِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: جَمْعُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَجَمْعُ الْخَوَاطِرِ وَالْعُزُومِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، لَا الْجَمْعُ الَّذِي هُوَ حَضْرَةُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ حَيَاةَ هَذَا الْجَمْعِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَسَمَّاهَا حَيَاةَ الْوُجُودِ. وَإِنَّمَا كَانَ جَمْعُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَالْخَوَاطِرِ عَلَى السَّيْرِ إِلَيْهِ حَيَاةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا سَعَادَةَ لَهُ، وَلَا فَلَاحَ وَلَا نَعِيمَ، وَلَا فَوْزَ وَلَا لَذَّةَ، وَلَا قُرَّةَ عَيْنٍ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ غَايَةُ طَلَبِهِ، وَنِهَايَةُ قَصْدِهِ، وَوَجْهُهُ الْأَعْلَى هُوَ كُلُّ بُغْيَتِهِ، فَالتَّفْرِقَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَاجْتِمَاعِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ هِيَ مَرَضُهُ إِنْ لَمْ يَمُتْ مِنْهَا. قَالَ: وَلِهَذِهِ الْحَيَاةِ ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ، نَفَسُ الِاضْطِرَارِ؛ وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ أَمَلِهِ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، فَيُضْطَرُّ حِينَئِذٍ- بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ- إِلَى رَبِّهِ ضَرُورَةً تَامَّةً، بِحَيْثُ يَجِدُ فِي كُلِّ مَنْبَتِ شَعْرَةٍ مِنْهُ فَاقَةً تَامَّةً إِلَى رَبِّهِ وَمَعْبُودِهِ، فَهَذَا النَّفَسُ نَفَسٌ مُضْطَرٌّ إِلَى مَا لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَبَّهُ، وَخَالِقَهُ وَفَاطِرَهُ وَنَاصِرَهُ، وَحَافِظَهُ وَمُعِينَهُ وَرَازِقَهُ، وَهَادِيَهُ وَمُعَافِيَهُ، وَالْقَائِمَ بِجَمِيعِ مَصَالِحِهِ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودَهُ وَإِلَهَهُ، وَحَبِيبَهُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ حَيَاتُهُ وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَأَشْوَقَ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا الِاضْطِرَارُ هُوَ اضْطِرَارُ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " وَالِاضْطِرَارُ الْأَوَّلُ: اضْطِرَارُ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ نَفَسَ الِافْتِقَارِ هُوَ هَذَا النَّفَسُ، أَوْ مِنْ نَوْعِهِ، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ جَعَلَهُمَا نَفَسَيْنِ، فَجَعَلَ نَفَسَ الِاضْطِرَارِ بِدَايَةً، وَنَفَسَ الِافْتِقَارِ تَوَسُّطًا، وَنَفَسَ الِافْتِخَارِ نِهَايَةً، وَكَأَنَّ نَفَسَ الِاضْطِرَارِ يَقْطَعُ الْخَلْقَ مِنْ قَلْبِهِ، وَنَفَسَ الِافْتِقَارِ يُعَلِّقُ قَلْبَهُ بِرَبِّهِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ نَفَسٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ، أَوَّلُهُ انْقِطَاعٌ، وَآخِرُهُ اتِّصَالٌ. وَأَمَّا نَفَسُ الِافْتِخَارِ فَهُوَ نَتِيجَةُ هَذَيْنِ النَّفَسَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا إِذَا صَحَا لِلْعَبْدِ حَصَلَ لَهُ الْقُرْبُ مِنْ رَبِّهِ، وَالْأُنْسُ بِهِ، وَالْفَرَحُ بِهِ، وَبِالْخِلَعِ الَّتِي خَلَعَهَا رَبُّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَرُوحِهِ مِمَّا لَا يَقُومُ لِبَعْضِهِ مَمَالِكُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، فَحِينَئِذٍ يَتَنَفَّسُ نَفَسًا آخَرَ، يَجِدُ بِهِ مِنَ التَّفْرِيجِ وَالتَّرْوِيحِ وَالرَّاحَةِ وَالِانْشِرَاحِ مَا يُشَبَّهُ- مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ- بِنَفَسِ مَنْ جُعِلَ فِي عُنُقِهِ حَبْلٌ لِيُخْنَقَ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، ثُمَّ كُشِفَ عَنْهُ وَقَدْ حُبِسَ نَفَسُهُ، فَتَنَفَّسَ نَفَسَ مَنْ أُعِيدَتْ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ، وَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا لِلْعَبْدِ وَالِافْتِخَارِ؟ وَأَيْنَ الْعُبُودِيَّةُ مِنْ نَفَسِ الِافْتِخَارِ؟ قُلْتُ: لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ، وَيَخْتَالُ عَلَى بَنِي جِنْسِهِ، بَلْ هُوَ فَرَحٌ وَسُرُورٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا فَتَحَ عَلَيْهِ رَبُّهُ، وَمَنَحَهُ إِيَّاهُ، وَخَصَّهُ بِهِ، وَأَوْلَى مَا فَرِحَ بِهِ الْعَبْدُ فَضْلُ رَبِّهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَيُحِبُّ الْفَرَحَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشُّكْرِ، وَمَنْ لَا يَفْرَحْ بِنِعْمَةِ الْمُنْعِمِ لَا يُعَدُّ شَكُورًا، فَهُوَ افْتِخَارٌ بِمَا هُوَ مَحْضُ مِنَّةِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، لَا افْتِخَارَ بِمَا مَنَّ الْعَبْدُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ لَا ذَاكَ.
وَهُنَا سِرٌّ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النَّفَسَ يَفْخَرُ عَلَى أَنْفَاسِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، كَمَا تَفْخَرُ الْحَيَاةُ عَلَى الْمَوْتِ، وَالْعِلْمُ عَلَى الْجَهْلِ، وَالسَّمْعُ عَلَى الصَّمَمِ، وَالْبَصَرُ عَلَى الْعَمَى، فَيَكُونُ الِافْتِخَارُ لِلنَّفَسِ عَلَى النَّفَسِ، لَا لِلْمُتَنَفِّسِ عَلَى النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الْحَيَاةُ الثَّالِثَةُ: حَيَاةُ الْوُجُودِ. وَهِيَ حَيَاةٌ بِالْحَقِّ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الْهَيْبَةِ النَّفَسُ الْأَوَّلُ مِنْ حَيَاةِ الْوُجُودِ، وَهُوَ يُمِيتُ الِاعْتِدَالَ. وَنَفَسُ الْوُجُودِ، النَّفَسُ الثَّانِي مِنْ حَيَاةِ الْوُجُودِ وَهُوَ يَمْنَعُ الِانْفِصَالَ. وَنَفَسُ الِانْفِرَادِ النَّفَسُ الثَّالِثُ مِنْ حَيَاةِ الْوُجُودِ وَهُوَ يُورِثُ الِاتِّصَالَ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَلْحَظٌ لِلنَّظَّارَةِ، وَلَا طَاقَةٌ لِلْإِشَارَةِ. هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ- مِنَ الْحَيَاةِ- هِيَ حَيَاةُ الْوَاجِدِ، وَهِيَ أَكْمَلُ مِنَ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهَا، وَوُجُودُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوُجُودِ مَزِيدٌ لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا كَانَتْ حَيَاةُ الْوُجُودِ أَكْمَلَ الْحَيَاةِ، لِمَاذَا لِشَرَفِهَا وَكَمَالِهَا بِمُوجِدِهَا؛ وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَمَنْ حُبِيَ بِوُجُودِهِ فَقَدْ فَازَ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ. فَإِنْ قُلْتَ: يَصْعُبُ عَلَيَّ فَهْمُ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِوُجُودِهِ. قُلْتُ: لِأَجْلِ الْحِجَابِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَافْهَمِ الْحَيَاةَ بِوُجُودِ الْفَنَاءِ، وَبِوُجُودِ الْمَالِكِ الْقَادِرِ إِذَا كَانَ مَعَكَ وَنَاصِرَكَ، دُونَ مُجَرَّدِ وُجُودِهِ- وَلَا مَعْرِفَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَلْبَتَّةَ- فَحَقِيقَةُ الْحَيَاةِ: هِيَ الْحَيَاةُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، لَا الْحَيَاةُ النَّفَسُ وَالْفَنَاءُ وَأَسْبَابُ الْعَيْشِ. وَقَدْ تُفَسَّرُ " حَيَاةُ الْوُجُودِ " بِشُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، حَيْثُ لَا يَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا وَهُوَ بِاللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَهُ، وَبِحَالِ هَذَا الشُّهُودِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ بِقَلْبِهِ إِلَى شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ، وَلَا يَخَافَهُ وَلَا يَرْجُوهُ، بَلْ قَدْ قَصَرَ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ، وَتَوَكُّلَهُ وَإِنَابَتَهُ عَلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ، قَيُّومِ الْوُجُودِ وَقَيِّمِهِ وَقِيَامِهِ وَمُقَيِمِهِ وَحْدَهُ، فَمَتَى حَصَلَ لَهُ هَذَا الشُّهُودُ وَهَذَا الْحَالُ، فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةُ الْوُجُودِ. فَتَارَةً يَتَنَفَّسُ بِالْهَيْبَةِ، وَهِيَ سَطْوَةُ نُورِ الصِّفَاتِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يَسْطَعُ نُورُ الْوُجُودِ، فَيَقَعُ الْقَلْبُ فِي هَيْبَةٍ تَسْتَغْرِقُ حِسَّهُ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَوَالِمِ النَّفَسِ، وَذَلِكَ هُوَ الِاعْتِلَالُ الَّذِي يُمِيتُهُ النَّفَسُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَنَفَسُ يُمِيتُ الِاعْتِلَالَ " فَتَمُوتُ مِنْهُ عِلَلُ أَعْمَالِهِ، وَآثَارُ حُظُوظِهِ، وَشُهُودُ إِنِّيَّتِهِ. قَوْلُهُ: " وَنَفَسُ الْوُجُودِ " يُرِيدُ بِهِ: وُجُودَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، فَيَتَنَفَّسُ بِهَذَا الْوُجُودِ، كَمَا يَسْمَعُ بِهِ، وَيُبْصِرُ بِهِ، وَيَبْطِشُ بِهِ، وَيَمْشِي بِهِ. وَلَا تُصْغِ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. قَوْلُهُ: " وَهُوَ يَمْنَعُ الِانْفِصَالَ " الِانْفِصَالُ عِنْدَ الْقَوْمِ: انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنِ الرَّبِّ وَبَقَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَطَبِيعَتِهِ، وَ " الِاتِّصَالُ " هُوَ بَقَاؤُهُ بِرَبِّهِ، وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَحْكَامِ نَفْسِهِ، وَطَبْعِهِ وَهَوَاهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِـ " الِاتِّصَالِ " الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، وَبِـ " الِانْفِصَالِ " الْغَيْبَةُ عَنْ هَذَا الشُّهُودِ. وَأَمَّا الْمُلْحِدُ: فَيُفَسِّرُ الِاتِّصَالَ، وَالِانْفِصَالَ تَفْسِيرُهُمَا بِالِاتِّصَالِ الذَّاتِيِّ وَالِانْفِصَالِ الذَّاتِيِّ، وَهَذَا مُحَالٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا بِهِ، بَلْ لَمْ يَزَلْ إِيَّاهُ عِنْدَهُ، فَالْأَوَّلُ: يَتَعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ، وَهُوَ أَعْلَى الْأَنْوَاعِ. وَالثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِالشُّهُودِ وَالشُّعُورِ، وَهُوَ دُونَهُ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَعْلَى؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي وَادِي الْفَنَاءِ. وَالثَّالِثُ: لِلْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ. قَوْلُهُ: وَنَفَسُ الِانْفِرَادِ، وَهُوَ يُورِثُ الِاتِّصَالَ. نَفَسُ الِانْفِرَادِ: هُوَ الْمَصْحُوبُ بِشُهُودِ الْفَرْدَانِيَّةِ، وَهِيَ تَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، وَالتَّدْبِيرِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، فَلَا يُثْبِتُ لِسِوَاهُ قِسْطًا فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا يَجْعَلُ لِسِوَاهُ حَظًّا فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا فِي الْقَيُّومِيَّةِ، بَلْ يُفْرِدُهُ بِذَلِكَ فِي شُهُودِهِ، كَمَا أَفْرَدَهُ بِهِ فِي عِلْمِهِ، ثُمَّ يُفْرِدُهُ بِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي أَوْجَبَهَا لَهُ الشُّهُودُ، فَيَكُونُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَرْدًا فِي عِلْمِ الْعَبْدِ وَمَعْرِفَتِهِ، فَرْدًا فِي شُهُودِهِ، فَرْدًا فِي حَالِهِ فِي شُهُودِهِ. وَهَذَا النَّفَسُ يُورِثُهُ الِاتِّصَالَ بِرَبِّهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ مُرَادٌ غَيْرُهُ، وَلَا إِرَادَةٌ غَيْرَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَيَسْتَفْرِغُ حُبُّهُ قَلْبَهُ، وَتَسْتَفْرِغُ مَرْضَاتُهُ سَعْيَهُ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَقَامٌ يَلْحَظُهُ النَّظَّارَةُ، لَا بِالْقَلْبِ وَلَا بِالرُّوحِ. فَإِنَّ كَمَالَ هَذَا الِاتِّصَالِ، وَالشُّغْلِ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ: قَدِ اسْتَفْرَغَ الْمَقَامَاتِ، وَاسْتَوْعَبَ الْإِشَارَاتِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْقَبْضِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا}. قُلْتُ: قَدْ أَبْعَدَ فِي تَعَلُّقِهِ بِإِشَارَةٍ لِآيَةٍ إِلَى الْقَبْضِ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِوَجْهٍ مَا، وَإِنَّمَا يُشَارِكُ الْقَبْضُ الْمُتَرْجِمَ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ، فَإِنَّ الْقَبْضَ فِي الْآيَةِ هُوَ قَبْضُ الظِّلِّ، وَهُوَ تَقَلُّصُهُ بَعْدَ امْتِدَادِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} فَأَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّهُ بَسَطَ الظِّلَّ وَمَدَّهُ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَحَرِّكًا تَبَعًا لِحَرَكَةِ الشَّمْسِ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا لَا يَتَحَرَّكُ: إِمَّا بِسُكُونِ الْمُظْهِرِ لَهُ، وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِسَبَبٍ آخَرَ، ثُمَّ أَخْبَرَ: أَنَّهُ قَبَضَهُ- بَعْدَ بَسْطِهِ- قَبْضًا يَسِيرًا، وَهُوَ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، لَمْ يَقْبِضْهُ جُمْلَةً، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ، فَنَدَبَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى رُؤْيَةِ صَنْعَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي هَذَا الْفَرْدِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ لَاصِقًا بِأَصْلِ مَا هُوَ ظِلٌّ لَهُ مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ. فَإِنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ تَابِعًا لِمَدِّهِ وَبَسْطِهِ، وَتَحَوُّلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَفِي مَدِّهِ وَبَسْطِهِ، ثُمَّ قَبْضِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ مَا لَا يَخْفَى وَلَا يُحْصَى، فَلَوْ كَانَ سَاكِنًا دَائِمًا، أَوْ قُبِضَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَتَعَطَّلَتْ مَرَافِقُ الْعَالَمِ وَمَصَالِحُهُ بِهِ وَبِالشَّمْسِ، فَمَدُّ الظِّلِّ وَقَبْضُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا لَازِمٌ لِحَرَكَةِ الشَّمْسِ، عَلَى مَا قُدِّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَفِي دَلَالَةِ الشَّمْسِ عَلَى الظِّلَالِ مَا تُعْرَفُ بِهِ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ، وَمَا مَضَى مِنَ الْيَوْمِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَفِي تَحَرُّكِهِ وَانْتِقَالِهِ مَا يَبْرُدُ بِهِ مَا أَصَابَهُ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، وَيَنْفَعُ الْحَيَوَانَاتِ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ، فَهُوَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَّ الظِّلَّ حِينَ بَنَى السَّمَاءَ كَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَدَحَا الْأَرْضَ تَحْتَهَا، فَأَلْقَتِ الْقُبَّةُ ظِلَّهَا عَلَيْهَا، فَلَوْ شَاءَ سُبْحَانَهُ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا مُسْتَقِرًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، ثُمَّ خَلَقَ الشَّمْسَ وَنَصَبَهَا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ الظِّلِّ، فَهُوَ يَتْبَعُهَا فِي حَرَكَتِهَا، يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ، وَيَمْتَدُّ وَيَتَقَلَّصُ، فَهُوَ تَابِعٌ لَهَا تَبَعِيَّةَ الْمَدْلُولِ لِدَلِيلِهِ. وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبْضَهُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْأَجْرَامُ الَّتِي تُلْقِي الظِّلَالَ. فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ إِعْدَامَهُ بِإِعْدَامِ أَسْبَابِهِ، كَمَا ذَكَرَ إِنْشَاءَهُ بِإِنْشَاءِ أَسْبَابِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} كَأَنَّهُ يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {قَبْضًا يَسِيرًا} يُشْبِهُ قَوْلَهُ: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} وقوله: " قَبَضْنَاهُ " بِصِيغَةِ الْمَاضِي لَا يُنَافِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وَالْوَجْهُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ: إِنْ أَرَادَ مِنْ ذِكْرِهِمَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَيْهِمَا- إِشَارَةً وَإِيمَاءً- فَقَرِيبٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِهَا فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ ذَلِكَ آيَةً وَدَلَالَةً عَلَيْهِ لِلنَّاظِرِ فِيهِ، كَمَا فِي سَائِرِ آيَاتِهِ الَّتِي يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا مَشْهُودًا تَقُومُ بِهِ الدَّلَالَةُ، وَتَحْصُلُ بِهِ التَّبْصِرَةُ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا مَا تَعَلَّقَ بِهِ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فِي بَابِ الْقَبْضِ بِقَبْضِ الظِّلِّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: الَّذِي مَدَّ ظِلَّ التَّكْوِينِ عَلَى الْخَلِيقَةِ مَدًّا طَوِيلًا، ثُمَّ جَعَلَ شَمْسَ التَّمْكِينِ لِصَفْوَتِهِ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضَ ظِلَّ التَّفْرِقَةِ عَنْهُمْ إِلَيْهِ قَبْضًا يَسِيرًا فَاسْتَعَارَ لِلتَّكْوِينِ لَفْظَ الظِّلِّ إِعْلَامًا بِأَنَّ الْمُكَوِّنَاتِ بِمَنْزِلَةِ الظِّلَالِ فِي عَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا بِأَنْفُسِهَا؛ إِذْ لَا يَتَحَرَّكُ الظِّلُّ إِلَّا بِحَرَكَةِ صَاحِبِهِ، وَقَوْلُهُ " مَدًّا طَوِيلًا " إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ خَلْقًا لَا يَتَنَاهَى، لِسِعَةِ قُدْرَتِهِ، وَوُجُوبِ أَبَدِيَّتِهِ. ثُمَّ إِنَّ حَقِيقَةَ الظِّلِّ هِيَ عَدَمُ الشَّمْسِ فِي بُقْعَةٍ مَا، لِسَاتِرٍ سَتَرَهَا، فَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ بِالشَّمْسِ، فَكَذَلِكَ الْمُكَوَّنُ إِنَّمَا تَتَعَيَّنُ حَقِيقَتُهُ بِالْمُكَوِّنِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَ " شَمْسُ التَّمْكِينِ " هِيَ التَّوْحِيدُ الْجَامِعُ لِقُلُوبِ صَفْوَتِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي شِعَابِ ظِلِّ التَّكْوِينِ " ثُمَّ قَبَضَ ظِلَّ التَّفْرِقَةِ عَنْهُمْ إِلَيْهِ قَبْضًا يَسِيرًا "؛ أَيْ: أَخَذَ ظِلَّ التَّفْرِقَةِ عَنْهُمْ أَخْذًا سَهْلًا. فَالشَّيْخُ أَحَالَ- بِاسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ- عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي الْخُطْبَةِ وَوَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} وَالْقَبْضُ فِي هَذَا الْبَابِ: لَمْ يُرِدْ بِهِ قَبْضَ الْإِضَافَةِ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ: الْقَبْضُ فِي هَذَا الْبَابِ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى مَقَامِ الضَّنَائِنِ الَّذِينَ ادَّخَرَهُمُ الْحَقُّ اصْطِنَاعًا لِنَفْسِهِ. فَالْقَبْضُ نَوْعَانِ: قَبْضٌ فِي الْأَحْوَالِ، وَقَبْضٌ فِي الْحَقَائِقِ، فَالْقَبْضُ فِي الْأَحْوَالِ أَمْرٌ يَطْرُقُ الْقَلْبَ يَمْنَعُهُ عَنْ الِانْبِسَاطِ وَالْفَرَحِ، وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْضًا. أَحَدُهُمَا: مَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، مِثْلُ تَذَكُّرِ ذَنْبٍ، أَوْ تَفْرِيطٍ، أَوْ بُعْدٍ، أَوْ جَفْوَةٍ أَوْ حُدُوثِ مَا هُوَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ. بَلْ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ هُجُومًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْقَبْضُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْقَوْمِ، وَضِدُّهُ الْبَسْطُ، فَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ عِنْدَهُمْ حَالَتَانِ لِلْقَلْبِ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ: فِي مَعْنَى الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ مَعْنَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَالرَّجَاءُ: يَبْسُطُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْخَوْفُ: يَقْبِضُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. فَكُلُّهُمْ تَكَلَّمَ فِي الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ حَتَّى جَعَلُوهُ أَقْسَامًا: قَبْضُ تَأْدِيبٍ، وَقَبْضُ تَهْذِيبٍ، وَقَبْضُ جَمْعٍ، وَقَبْضُ تَفْرِيقٍ، وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ صَاحِبُهُ- إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ- مِنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْكَلَامِ، وَفِعْلِ الْأَوْرَادِ، وَالِانْبِسَاطِ إِلَى الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَبْضُ التَّأْدِيبِ: يَكُونُ عُقُوبَةً عَلَى غَفْلَةٍ، أَوْ خَاطِرِ سُوءٍ، أَوْ فِكْرَةٍ رَدِيئَةٍ. وَقَبْضُ التَّهْذِيبِ: يَكُونُ إِعْدَادًا لِبَسْطٍ عَظِيمٍ شَأْنُهُ يَأْتِي بَعْدَهُ، فَيَكُونُ الْقَبْضُ قَبْلَهُ كَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، كَمَا كَانَ " الْغَتُّ وَالْغَطُّ " مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيِ الْوَحْيِ، وَإِعْدَادًا لِوُرُودِهِ، وَهَكَذَا الشِّدَّةُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْفَرَجِ، وَالْبَلَاءُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَافِيَةِ، وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْنِ، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ النَّافِعَةَ الْمَحْبُوبَةَ إِنَّمَا يُدْخَلُ إِلَيْهَا مِنْ أَبْوَابِ أَضْدَادِهَا. وَأَمَّا قَبْضُ الْجَمْعِ: فَهُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ حَالَ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ مِنَ انْقِبَاضِهِ عَنِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ فَضْلٌ وَلَا سِعَةٌ لِغَيْرِ مَنِ اجْتَمَعَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ مَنْ أَرَادَ مِنْ صَاحَبِهِ مَا يَعْهَدُهُ مِنْهُ مِنَ الْمُؤَانَسَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ فَقَدْ ظَلَمَهُ. وَأَمَّا قَبْضُ التَّفْرِقَةِ: فَهُوَ الْقَبْضُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ تَفَرُّقِ قَلْبِهِ عَنِ اللَّهِ، وَتَشَتُّتِهِ عَنْهُ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ: مَا يَجِدُهُ مِنَ الْقَبْضِ الَّذِي يَتَمَنَّى مَعَهُ الْمَوْتَ. وَأَمَّا الْقَبْضُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: فَهُوَ شَيْءٌ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ قِسْمِ الْحَقَائِقِ، وَذَلِكَ الْقَبْضُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قِسْمِ الْبِدَايَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: الْقَبْضُ فِي هَذَا الْبَابِ: اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى مَقَامِ الضَّنَائِنِ، وَمِنْ هَنَا حَسُنَ اسْتِشْهَادُهُ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَبْضِ الظِّلِّ إِلَيْهِ، وَالْقَبْضُ فِي هَذَا الْبَابِ يَتَضَمَّنُ قَبْضَ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، وَجَمْعِيَّتِهِ بَعْدَ التَّفْرِقَةِ عَلَيْهِ، وَالضَّنَائِنُ جَمْعُ ضَنِّينَةٍ، وَهِيَ الْخَاصَّةُ، يَضِنُّ بِهَا صَاحِبُهَا؛ أَيْ: يَبْخَلُ بِبَذْلِهَا وَيَصْطَفِيهَا لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: الَّذِينَ ادَّخَرَهُمُ الْحَقُّ اصْطِنَاعًا لِنَفْسِهِ. وَالِادِّخَارُ افْتِعَالٌ مِنْ الذُّخْرِ، وَهُوَ مَا يُعِدُّهُ الْمَرْءُ لِحَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ، وَالِاصْطِنَاعُ بِمَعْنَى الِاصْطِفَاءِ. قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وَالِاصْطِنَاعُ فِي الْأَصْلِ: اتِّخَاذُ الصَّنِيعَةِ، وَهِيَ الْخَيْرُ تُسْدِيهِ إِلَى غَيْرِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا اصْطَنَعْتَ صَنِيعَةً فَاقْصِدْ بِهَا *** وَجْهَ الَّذِي يُولِي الصَّنَائِعَ أَوْدَعِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اصْطَنَعْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اخْتَرْتُكَ بِالرِّسَالَةِ لِنَفْسِي، لِكَيْ تُحِبَّنِي وَتَقُومَ بِأَمْرِي. وَقِيلَ: اخْتَرْتُكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِي، فَتُكَلِّمَ عِبَادِي عَنِّي. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَرْتُكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِي، وَجَعَلْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي حَتَّى صِرْتَ فِي الْخِطَابِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِّي بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَكُونُ أَنَا بِهَا لَوْ خَاطَبْتُهُمْ. وَقِيلَ: مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ- لِجَوَامِعِ خِصَالٍ فِيهِ وَخَصَائِصٍ- أَهْلًا لِكَرَامَتِهِ وَتَقْرِيبِهِ، فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ مِنْهُ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ، وَلَا أَلْطَفَ مَحَلًّا، فَيَصْطَنِعُهُ بِالْكَرَامَةِ وَالْأَثَرَةِ، وَيَسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسِهِ، بِحَيْثُ يَسْمَعُ بِهِ، وَيُبْصِرُ بِهِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ حَالَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الضَّنَائِنَ وَبَيْنَ التَّعَلُّقِ بِالْخَلْقِ، وَصَرَفَ قُلُوبَهُمْ وَهِمَمَهُمْ وَعَزَائِمَهُمْ إِلَيْهِ. قَالَ: وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَبْضُهُمْ إِلَيْهِ؛ قَبْضُ التَّوَقِّي، فَضَنَّ بِهِمْ عَنْ أَعْيُنِ الْعَالَمِينَ. هَذَا الْحَرْفُ فِي التَّوَقِّي بِالْقَافِ مِنَ الْوِقَايَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْوَفَاةِ؛ أَيْ: سَتَرَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وِقَايَةً لَهُمْ، وَصِيَانَةً عَنْ مُلَابَسَتِهِمْ، فَغَيَّبَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، فَلَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الِانْقِطَاعِ وَالْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ وَقْتَ فَسَادِ الزَّمَانِ، وَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمَرْءِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، وَقَوْلُهُ: وَرَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ وَهَذِهِ الْحَالُ تُحْمَدُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضِهَا، وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ: أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَالْعُزْلَةُ: فِي وَقْتٍ تَجِبُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُسْتَحَبُّ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُبَاحُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُكْرَهُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تَحْرُمُ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْضَ التَّوَفِّي- بِالْفَاءِ- أَجْسَادَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ تُوَفِّي وَفَارَقَ الدُّنْيَا. قَالَ: وَفِرْقَةٌ قَبَضَهُمْ بِسِتْرِهِمْ فِي لِبَاسِ التَّلْبِيسِ، وَأَسْبَلَ عَلَيْهِمْ أَكِلَّةَ الرُّسُومِ، فَأَخْفَاهُمْ عَنْ عُيُونِ الْعَالَمِ. هَذِهِ الْفِرْقَةُ: هُمْ مَعَ النَّاسِ مُخَالِطُونَ، وَالنَّاسُ يَرَوْنَ ظَوَاهِرَهُمْ. وَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ حَقَائِقَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ لَهَا، فَحَالُهُمْ مُلْتَبِسٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَهُ، فَإِذَا رَأَوْا مِنْهُمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا- مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَالنِّكَاحِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ- قَالُوا: هَؤُلَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِذَا رَأَوْا ذَلِكَ الْجَدَّ وَالْهِمَمَ، وَالصَّبْرَ وَالصِّدْقَ، وَحَلَاوَةَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانَ وَالذِّكْرَ، وَشَاهَدُوا مِنْهُمْ أُمُورًا لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، قَالُوا: هَؤُلَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَالْتَبَسَ حَالُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ مَسْتُورُونَ عَنِ النَّاسِ بِأَسْبَابِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ، لَمْ يَجْعَلُوا لِطَلَبِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ إِشَارَةً تُشِيرُ إِلَيْهِمْ: اعْرَفُونِي، فَهَؤُلَاءِ يَكُونُونَ مَعَ النَّاسِ، وَالْمَحْجُوبُونَ لَا يَعْرِفُونَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ بِهِمْ رُءُوسًا، وَهُمْ مِنْ سَادَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، صَانَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ كَرَامَةً لَهُمْ، لِئَلَّا يَفْتَتِنُوا بِهِمْ، وَإِهَانَةً لِلْجُهَّالِ بِهِمْ، فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ. وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِأَبْدَانِهِمْ، وَبَيْنَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى بِقُلُوبِهِمْ، فَإِذَا فَارَقُوا هَذَا الْعَالَمَ انْتَقَلَتْ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى تِلْكَ الْحَضْرَةِ، فَإِنَّ رُوحَ كُلِّ عَبْدٍ تَنْتَقِلُ- بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ- إِلَى حَضْرَةِ مَنْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ وَيُحِبُّهُمْ، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّهُ. قَوْلُهُ: " وَأَسْبَلَ عَلَيْهِمْ أَكِلَّةَ الرُّسُومِ " أَيْ: أَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْخَلْقِ يَأْكُلُونَ كَمَا يَأْكُلُونَ، وَيَشْرَبُونَ كَمَا يَشْرَبُونَ، وَيَسْكُنُونَ حَيْثُ يَسْكُنُونَ، وَيَمْشُونَ مَعَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيُعَانُونَ مَعَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَهُمْ فِي وَادٍ وَالنَّاسُ فِي وَادٍ، فَمُشَارَكَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ هِيَ الَّتِي سَتَرَتْهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِمْ، وَعَنْ إِدْرَاكِ حَقَائِقِهِمْ فَهُمْ تَحْتَ سُتُورِ الْمُشَارَكَةِ. وَوَرَاءَ هَاتِيكَ السُّتُورِ مُحَجَّـبُ *** بِالْحُسْنِ كُلُّ الْعِزِّ تَحْتَ لِوَائِهِ لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ بَعْضَ جَمَالِـهِ *** لَبَذَلْتَ مِنْكَ الرُّوحَ فِي إِرْضَائِهِ مَا طَابَتِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ حَدِيثِــهِ *** كَلَّا وَلَا الْأُخْرَى بِدُونِ لِقَائِهِ يَا خَاسِرًا هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُـهُ *** إِذْ بَاعَهَا بِالْغَبْنِ مِنْ أَعْدَائِـهِ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ قَدْرَ مَا قَدْ بِعْتَهُ *** لَفَسَخَتْ ذَاكَ الْبَيْعَ قَبْلَ وَفَائِهِ أَوْ كُنْتَ كُفْوًا لِلرَّشَادِ وَلِلْهُدَى *** أَبْصَرْتَ لَكِنْ لَسْتَ مِنْ أَكْفَائِهِ قَوْلُهُ: وَفِرْقَةٌ قَبْضُهُمْ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَصَافَاهُمْ مُصَافَاةَ سِرٍّ، فَضَنَّ بِهِمْ عَلَيْهِمْ. هَذِهِ الْفِرْقَةُ إِنَّمَا كَانَتْ أَعْلَى مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ: لِأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ قَدْ سَتَرَهُمْ عَنْ نُفُوسِهِمْ، لِكَمَالِ مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَشَغَلَهُمْ بِهِ عَنْهُمْ، فَهُمْ فِي أَعْلَى الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، وَلَا الْتِفَاتَ لَهُمْ إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ قُلُوبُهُمْ مَعَهُ سُبْحَانَهُ لَا مَعَ سِوَاهُ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ السِّوَى وَلَا السِّوَى مِنْهُمْ، بَلْ هُمْ مَعَ السِّوَى بِالْمُجَاوَرَةِ وَالِامْتِحَانِ، لَا بِالْمُسَاكَنَةِ وَالْأُلْفَةِ، قُلُوبُهُمْ عَامِرَةٌ بِالْأَسْرَارِ، وَأَرْوَاحُهُمْ تَحِنُّ إِلَيْهِ حَنِينَ الطُّيُورِ إِلَى الْأَوْكَارِ، قَدْ سَتَرَهُمْ وَلِيُّهُمْ وَحَبِيبُهُمْ عَنْهُمْ، وَأَخَذَهُمْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: " فَصَافَاهُمْ مُصَافَاةَ سِرٍّ " أَيْ: جَعَلَ مَوَاجِيدَهُمْ فِي أَسْرَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ لِلُطْفِ إِدْرَاكِهِمْ، فَلَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِمْ فِي ظَوَاهِرِهِمْ لِقُوَّةِ الِاسْتِعْدَادِ. قَوْلُهُ: " فَضَنَّ بِهِمْ عَلَيْهِمْ " أَيْ: أَخَذَهُمْ عَنْ رُسُومِهِمْ، فَأَفْنَاهُمْ عَنْهُمْ. وَأَبْقَاهُمْ بِهِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذَا: أَنَّ " الْقَبْضَ " الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ: لَيْسَ هُوَ الْقَبْضُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ فِي الْبِدَايَاتِ وَالسُّلُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْبَسْطِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}. قُلْتُ: وَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُعَيِّشُكُمْ فِيمَا خَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُكَثِّرُكُمْ فِي هَذَا التَّزْوِيجِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّزْوِيجُ لَمْ يَكْثُرِ النَّسْلُ، وَالْمَعْنَى: يَخْلُقُكُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ جَعْلِهِ لَكُمْ أَزْوَاجًا، فَإِنَّ سَبَبَ خَلْقِنَا وَخَلْقِ الْحَيَوَانِ: بِالْأَزْوَاجِ، وَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: " فِيهِ " يَرْجِعُ إِلَى الْجَعْلِ، وَمَعْنَى الذَّرْءِ: الْخَلْقُ، وَهُوَ هُنَا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ، فَهُوَ خَلْقٌ وَتَكْثِيرٌ، فَقِيلَ " فِي " بِمَعْنَى الْبَاءِ؛ أَيْ: يُكَثِّرُكُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَالْفِعْلُ تَضَمَّنَ مَعْنَى يُنْشِئُكُمْ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِفِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَهَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ حَيَاتَيْنِ: حَيَاةَ الْأَبْدَانِ، وَحَيَاةَ الْأَرْوَاحِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُحْيِي قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ وَأَرْوَاحِهِمْ بِإِكْرَامِهِ وَلُطْفِهِ وَبَسْطِهِ- كَانَ ذَلِكَ تَنْمِيَةً لَهَا وَتَكْثِيرًا وَذَرْءًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْبَسْطُ: أَنْ يُرْسِلَ شَوَاهِدَ الْعَبْدِ فِي مَدَارِجِ الْعِلْمِ، وَيُسْبِلَ عَلَى بَاطِنِهِ رِدَاءَ الِاخْتِصَاصِ، وَهُمْ أَهْلُ التَّلْبِيسِ، وَإِنَّمَا بُسِطُوا فِي مَيْدَانِ الْبَسْطِ، بَعْدَ ثَلَاثِ مَعَانٍ، لِكُلِّ مَعْنًى طَائِفَةٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْبَسْطَ إِرْسَالُ ظَوَاهِرِ الْعَبْدِ وَأَعْمَالِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَيَكُونُ بَاطِنُهُ مَغْمُورًا بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ، فَيَكُونُ جَمَالُهُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فَظَاهِرُهُ قَدِ اكْتَسَى الْجَمَالَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ، وَبَاطِنُهُ قَدِ اكْتَسَى الْجَمَالَ بِالْمَحَبَّةِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْأُنْسِ، فَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَهُ دِثَارٌ، وَالْأَحْوَالُ الْبَاطِنَةُ لَهُ شِعَارٌ، فَلَا حَالُهُ يُنْقِصُ عَلَيْهِ ظَاهِرَ حُكْمِهِ، وَلَا عِلْمُهُ يَقْطَعُ وَارِدَ حَالِهِ، وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْجَمَالَيْنِ- أَعْنِي جَمَالَ الظَّاهِرِ وَجَمَالَ الْبَاطِنِ- فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ. مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نِسَاءِ الْجَنَّةِ: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} فَهُنَّ حِسَانُ الْوُجُوهِ، خَيِّرَاتُ الْأَخْلَاقِ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} فَالنَّضْرَةُ جَمَالُ الْوُجُوهِ، وَالسُّرُورُ جَمَالُ الْقُلُوبِ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَالنَّضْرَةُ تُزَيِّنُ ظَوَاهِرَهُمْ، وَالنَّظَرُ يُجَمِّلُ بَوَاطِنَهُمْ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} فَالْأَسَاوِرُ جَمَّلَتْ ظَوَاهِرَهُمْ، وَالشَّرَابُ الطَّهُورُ طَهَّرَ بَوَاطِنَهُمْ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} فَجَمَّلَ ظَاهِرَهَا بِالْكَوَاكِبِ، وَبَاطِنَهَا بِالْحِرَاسَةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. رَجَعْنَا إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: " وَهُمْ أَهْلُ التَّلْبِيسِ " يَعْنِي: أَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي بَابِ الْقَبْضِ وَهُمُ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ سُتِرُوا بِلِبَاسِ التَّلْبِيسِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. فَلَا تَرَى حَقَائِقَهُمْ. قَوْلُهُ: " وَإِنَّمَا بُسِطُوا فِي مَيْدَانِ الْبَسْطِ " أَيْ: بَسَطَهُمُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، لَا مَا يَظُنُّهُ الْمُلْحِدُ أَنَّهُ السَّمَاعُ الشَّهِيُّ، وَمُلَاحَظَةُ الْمَنْظَرِ الْبَهِيِّ، وَرُؤْيَةُ الصُّوَرِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، وَسَمَاعُ الْآلَاتِ الْمُطْرِبَاتِ. نَعَمْ هَذَا مَيْدَانٌ بَسَطَهُ الشَّيْطَانُ يَقْتَطِعُ بِهِ النُّفُوسَ عَنِ الْمَيْدَانِ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّحْمَنُ، فَمَيْدَانُ الرَّحْمَنِ الَّذِي بَسَطَهُ هُوَ الَّذِي نَصَبَهُ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِهِ، وَمَعَ الْغَرِيبِ وَالْقَرِيبِ، وَهِيَ سِعَةُ الصَّدْرِ، وَدَوَامُ الْبِشْرِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ، وَالْوُقُوفُ مَعَ مَنِ اسْتَوْقَفَهُ، وَالْمِزَاحُ بِالْحَقِّ مَعَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَحْيَانًا، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَلِينُ الْجَانِبِ حَتَّى يَظُنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمَيْدَانُ لَا تَجِدُ فِيهِ إِلَّا وَاجِبًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا، أَوْ مُبَاحًا يُعِينُ عَلَيْهِمَا. قَوْلُهُ: فَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ، يُبَاسِطُونَهُمْ وَيُلَابِسُونَهُمْ، فَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِمْ، وَالْحَقَائِقُ مَجْمُوعَةٌ، وَالسَّرَائِرُ مَصُونَةٌ. جَعَلَ اللَّهُ انْبِسَاطَهُمْ مَعَ الْخَلْقِ رَحْمَةً لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ بَسَطَ هَؤُلَاءِ مَعَ خَلْقِهِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِمُ السَّالِكُ، وَيَهْتَدِيَ بِهِمُ الْحَيْرَانُ، وَيُشْفَى بِهِمُ الْعَلِيلُ، وَيُسْتَضَاءَ بِنُورِ هِدَايَتِهِمْ وَنُصْحِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ دَيَاجِي الطَّبْعِ وَالْهَوَى، فَالسَّالِكُونَ يَقْتَدُونَ بِهِمْ إِذَا سَكَتُوا، وَيَنْتَفِعُونَ بِكَلِمَاتِهِمْ إِذَا نَطَقُوا، فَإِنَّ حَرَكَاتِهُمْ وَسُكُونَهُمْ لَمَّا كَانَتْ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَعَلَى أَمْرِ اللَّهِ جَذَبَتْ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا النُّورُ الَّذِي أَضَاءَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُمْ هُوَ نُورُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ اسْتَنَارَ بِنُورِهِ وَاسْتَنَارَ بِهِ النَّاسُ، فَهَذَا مِنْ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَالِمٌ اسْتَنَارَ بِنُورِهِ، وَلَمْ يَسْتَنِرْ بِهِ غَيْرُهُ، فَهَذَا إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ كَانَ نَفْعُهُ قَاصِرًا عَلَى نَفْسِهِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَعَالِمٌ لَمْ يَسْتَنِرْ بِنُورِهِ وَلَا اسْتَنَارَ بِهِ غَيْرُهُ، فَهَذَا عِلْمُهُ وَبَالٌ عَلَيْهِ، وَبَسْطَتُهُ لِلنَّاسِ فِتْنَةٌ لَهُمْ، وَبَسْطَةُ الْأَوَّلِ رَحْمَةٌ لَهُمْ. قَوْلُهُ: " وَالْحَقَائِقُ مَجْمُوعَةٌ، وَالسَّرَائِرُ مَصُونَةٌ " أَيِ: انْبَسَطُوا وَالْحَقَائِقُ الَّتِي فِي سَرَائِرِهِمْ مَجْمُوعَةٌ فِي بَوَاطِنِهِمْ، فَالِانْبِسَاطُ لَمْ يُشَتِّتْ قُلُوبَهُمْ، وَلَمْ يُفَرِّقْ هِمَمَهُمْ، وَلَمْ يُحِلَّ عَقْدَ عَزَائِمِهِمْ. قَوْلُهُ: " وَسَرَائِرُهُمْ مَصُونَةٌ " مَسْتُورَةٌ لَمْ يَكْشِفُوهَا لِمَنِ انْبَسَطُوا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَسْطُ يَقْتَضِي الْإِلْفَ، وَاطِّلَاعَ كُلٍّ مِنَ الْمُتَبَاسِطَيْنِ عَلَى سِرِّ صَاحِبِهِ، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تُطْلِعَ مَنْ بَاسَطْتَهُ عَلَى سِرِّكَ مَعَ اللَّهِ، وَلَكِنِ اجْذِبْهُ وَشَوِّقْهُ، وَاحْفَظْ وَدِيعَةَ اللَّهِ عِنْدَكَ، لَا تُعَرِّضْهَا لِلِاسْتِرْجَاعِ. قَالَ: وَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ لِقُوَّةِ مُعَايَنَتِهِمْ، وَتَصْمِيمِ مَنَاظِرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ لَا تُخَالِجُ الشَّوَاهِدُ مَشْهُودَهُمْ، وَلَا تَضْرِبُ رِيَاحُ الرُّسُومِ مَوْجُودَهُمْ، فَهُمْ مَبْسُوطُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَبْضِ، إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لِأَرْبَابِ الْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ لِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، بُسِطَتِ الْأُولَى: رَحْمَةً لِلْخَلْقِ، وَبُسِطَتْ هَذِهِ: اخْتِصَاصًا بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: " لِقُوَّةِ مُعَايَنَتِهِمْ " إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لِقُوَّةِ إِدْرَاكِ مُعَايَنَتِهِمْ، أَوْ لِقُوَّةِ ظُهُورِ مُعَايَنَتِهِمْ لِبَوَاطِنِهِمْ، أَوْ لِقُوَّتِهَا وَبَيَانِهَا فِي نَفْسِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَطْمَعُ الْبَسْطُ أَنْ يَحْجُبَهُمْ عَنْ مُعَايَنَةِ مَطْلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْمُعَايَنَةِ مَنَعَتْ وُصُولَ الْبَسْطِ إِلَى إِزَالَتِهَا وَإِضْعَافِهَا. قَوْلُهُ: " وَتَصْمِيمُ مَنَاظِرِهِمْ " يَعْنِي ثَبَاتَ مَنَاظِرِ قُلُوبِهِمْ وَصِحَّتِهَا، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يَحُولُ بَيْنَ نَظَرِ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ مَا تَرَاهُ قَتَرٌ مِنْ شَكٍّ، وَلَا غَيْمٌ مِنْ رَيْبٍ، فَاللَّطِيفَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْمُدْرِكَةُ لِحَقِيقَةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ صَحِيحَةٌ، وَهِيَ شَدِيدَةُ التَّوَجُّهِ إِلَى مَشْهُودِهَا، فَلَمْ يَقْدِرِ الْبَسْطُ عَلَى حَجْبِهَا عَنْ مَشْهُودِهَا. قَوْلُهُ: " لِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ لَا تُخَالِجُ الشَّوَاهِدُ مُشْهُودَهُمْ " أَيْ: لَا تُمَازِجُ الشَّوَاهِدُ مَشْهُودَهُمْ، فَيَكُونُ إِدْرَاكُهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ، بَلْ مَشْهُودُهُمْ حَاضِرٌ لَهُمْ، لَمْ يُدْرِكُوهُ بِغَيْرِهِ، فَلَا تُخَالِطُ مُشَاهَدَتُهُمْ لَهُ شَوَاهِدَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالشَّوَاهِدُ مِثْلَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَقَامَ الشَّوَاهِدَ عَلَيْهِ، وَمَلَأَ بِهَا كِتَابَهُ، وَهَدَى عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَلَكِنَّ الْعَارِفَ إِذَا حَصَلَ لَهُ مِنْهَا الدَّلَالَةُ، وَوَصَلَ مِنْهَا إِلَى الْيَقِينِ انْطَوَى حُكْمُهَا عَنْ شُهُودِهِ، وَسَافَرَ قَلْبُهُ مِنْهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَا، وَرَآهَا كُلَّهَا أَثَرًا مِنْ آثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمَشْهُودِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَا مُعَايَنَةَ الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ لِلصَّانِعِ إِذَا عَايَنَ صَنْعَتَهُ، فَكَأَنَّهُ يَرَى الْبَانِيَ وَهُوَ يَبْنِي مَا شَاهَدَهُ مِنَ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ؛ لِأَنَّ الشَّوَاهِدَ وَالْأَدِلَّةَ تَبْطُلُ وَيَبْطُلُ حُكْمُهَا. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَإِنَّهُ قَدْ غَلِطَ فِيهِ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ أَسَاءُوا الظَّنَّ بِمَنْ طَوَى حُكْمَ الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ، وَنَسَبُوهُمْ إِلَى مَا نَسَبُوهُمْ إِلَيْهِ، وَفَرِيقٌ رَأَوْا أَنَّ الشَّوَاهِدَ نَفْسُ الْمَشْهُودِ، وَالدَّلِيلُ عَيْنُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ شَاهِدًا وَدَلِيلًا، وَفِي الِانْتِهَاءِ مَشْهُودًا وَمَدْلُولًا. قَوْلُهُ: " وَلَا تَضْرِبُ رِيَاحُ الرُّسُومِ مَوْجُودَهُمْ " شَبَّهَ الرُّسُومَ بِالرِّيَاحِ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَ الصُّوَرِ الْخَلْقِيَّةِ تَمُرُّ عَلَى أَهْلِ الشُّهُودِ الضَّعِيفِ، فَتُحَرِّكُ بَوَاطِنَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَسَطَهُمُ الْحَقُّ تَعَالَى سَالِمُونَ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: " فَهُمْ مُنْبَسِطُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَبْضِ " أَيْ: هُمْ فِي حَالِ انْبِسَاطِهِمْ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنْ مَعَانِي الْقَبْضِ، بَلْ هُمْ مَبْسُوطُونَ بِقَبْضِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَتَنَافَى فِي حَقِّهِمُ الْبَسْطُ وَالْقَبْضُ، بَلْ قَبْضُهُمْ إِلَيْهِ فِي بَسْطِهِمْ، وَبَسْطُهُمْ بِهِ فِي قَبْضِهِمْ، وَجَعَلَ لِلْقَبْضِ قَبْضَةً تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ. قَالَ: وَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ أَعْلَامًا عَلَى الطَّرِيقِ، وَأَئِمَّةً لِلْهُدَى، وَمَصَابِيحَ لِلسَّالِكِينَ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ أَعْلَى مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَارَكَتْهُمَا فِي دَرَجَتَيْهِمَا، وَاخْتَصَّتْ عَنْهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَاتَّصَفَتْ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الْأُولَى مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاتَّصَفَتْ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَزَادَتْ عَلَيْهِمَا بِالنَّفْعِ لِلسَّالِكِينَ، وَالْهِدَايَةِ لِلْحَائِرِينَ، وَالْإِرْشَادِ لِلطَّالِبِينَ، فَاهْتَدَى بِهِمُ الْحَائِرُ، وَسَارَ بِهِمُ الْوَاقِفُ. وَاسْتَقَامَ بِهِمُ الْحَانِدُ، وَأَقْبَلَ بِهِمُ الْمُعْرِضُ، وَكَمُلَ بِهِمُ النَّاقِصُ، وَرَجَعَ بِهِمُ النَّاكِصُ، وَتَقَوَّى بِهِمُ الضَّعِيفُ، وَتَنَبَّهَ عَلَى الْمَقْصُودِ مَنْ هُوَ فِي الطَّرِيقِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ حَقًّا، وَهُمْ أُولُو الْبَصَرِ وَالْيَقِينِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فَنَالُوا إِمَامَةَ الدِّينِ، بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:(بَابُ السُّكْرِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُوسَى كَلِيمِهِ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}. وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ مُوسَى لَمَّا اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، وَسَمِعِهِ وَبَصَرِهِ الِاسْتِلْذَاذُ بِكَلَامِ رَبِّهِ لَهُ، فَحَصَلَ لَهُ مِنْ سَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَطِيبِ ذَلِكَ الْخِطَابِ، وَلَذَّةِ ذَلِكَ التَّكْلِيمِ مَا يَجِلُّ وَيَعْظُمُ وَيَكْبُرُ أَنْ يُسَمَّى سُكْرًا، أَوْ يُشَبَّهَ بِالسُّكْرِ- جَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. قَالَ: السُّكْرُ فِي هَذَا الْبَابِ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى سُقُوطِ التَّمَالُكِ فِي الطَّرَبِ، وَهَذَا مِنْ مَقَامَاتِ الْمُحِبِّينَ خَاصَّةً، فَإِنَّ عُيُونَ الْفَنَاءِ لَا تَقْبَلُهُ، وَمَنَازِلَ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ. قَوْلُهُ: " يُشَارُ بِهِ إِلَى سُقُوطِ التَّمَالُكِ " يَعْنِي: عَدَمَ الصَّبْرِ، تَقُولُ: مَا تَمَالَكْتُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا؛ أَيْ: مَا قَدِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ اسْمٌ لِقُوَّةِ الطَّرَبِ الَّذِي لَا يَدْفَعُهُ الصَّبْرُ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا الْعَارِفُونَ مِنَ السَّلَفِ بِالسُّكْرِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ بِئْسَ الِاصْطِلَاحُ؛ فَإِنَّ لَفْظَ السُّكْرِ وَالْمُسْكِرِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَعَامَّةُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي السُّكْرِ الْمَذْمُومِ الَّذِي يَمْقُتُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وَعَبَّرَ بِهِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْهَوْلِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلنَّاسِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَسْكَرَهُ حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي سُكْرِ الْهَوَى الْمَذْمُومِ، فَأَيْنَ أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّرِيفِ الَّذِي هُوَ مَنْ أَشْرَفِ أَحْوَالِ مُحِبِّيهِ وَعَابِدِيهِ اسْمَ السُّكْرِ الْمُسْتَعْمَلَ فِي سُكْرِ الْخَمْرِ، وَسُكْرِ الْفَوَاحِشِ؟ كَمَا قَالَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} فَوَصَفَ بِالسُّكْرِ أَرْبَابَ الْفَوَاحِشِ، وَأَرْبَابَ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ، فَلَا يَلِيقُ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَشْرَفِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، وَلَا سِيَّمَا فِي قِسْمِ الْحَقَائِقِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى كَلِيمِ الرَّحْمَنِ اسْمُ السُّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَالِاصْطِلَاحَاتُ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا إِذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ مَفْسَدَةً. وَأَيْضًا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْحَالَ يَحْصُلُ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، وَلَا يُسَمَّى سُكْرًا، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذَا الِاسْمِ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ تَسْمِيَتُهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اسْمُ الشَّرَابِ أَوْ تَسْمِيَةُ الْمَعَارِفِ بِالْخَمْرِ، وَالْوَارِدَاتِ بِالْكُؤُوسِ، وَاللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِالسَّاقِي، فَهَذِهِ الِاسْتِعَارَاتُ وَالتَّسْمِيَةُ هِيَ الَّتِي فَتَحَتْ هَذَا الْبَابَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُحِبِّينَ خَاصَّةً " فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حَقِيقَةِ السُّكْرِ وَسَبَبِهِ وَتَوَلُّدِهِ، وَهَلْ هُوَ مَقْدُورٌ أَوْ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَبَيَانُ انْقِسَامِهِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ وَمَحَلِّهِ، لِتَكُونَ الْفَائِدَةُ بِذَلِكَ أَتَمَّ. فَنَقُولُ- وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ-: السُّكْرُ لَذَّةٌ وَنَشْوَةٌ يَغِيبُ مَعَهَا الْعَقْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزُ، فَلَا يَعْلَمُ صَاحِبُهُ مَا يَقُولُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فَجَعَلَ الْغَايَةَ الَّتِي يَزُولُ بِهَا حُكْمُ السُّكْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَقُولُ، فَإِذَا عَلِمَ مَا يَقُولُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ السُّكْرِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: السَّكْرَانُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ثَوْبَهُ مِنْ ثَوْبِ غَيْرِهِ، وَنَعْلَهُ مِنْ نَعْلِ غَيْرِهِ، وَيُذْكَرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اخْتَلَطَ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ، وَأَفْشَى سِرَّهُ الْمَكْتُومَ. فَالسُّكْرُ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ: وُجُودُ لَذَّةٍ، وَعَدَمُ تَمْيِيزٍ، وَقَاصِدُ السُّكْرِ قَدْ يَقْصِدُهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ يَقْصِدُ أَحَدَهُمَا، فَإِنَّ النَّفْسَ لَهَا هَوًى وَشَهَوَاتٌ تَلْتَذُّ بِإِدْرَاكِهَا، وَالْعِلْمُ بِمَا فِي تِلْكَ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ يَمْنَعُهَا مِنْ تَنَاوُلِهَا، وَالْعَقْلُ يَأْمُرُهَا بِأَنْ لَا تَفْعَلَ، فَإِذَا زَالَ الْعِلْمُ الْكَاشِفُ الْمُمَيِّزُ وَالْعَقْلُ الْآمِرُ النَّاهِي انْبَسَطَتِ النَّفْسُ فِي هَوَاهَا، وَصَادَفَتْ مَجَالًا وَاسِعًا. وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السُّكْرَ لِشَيْئَيْنِ، ذَكَرَهُمَا فِي كِتَابِهِ، وَهُمَا إِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ النُّفُوسِ بِوَاسِطَةِ زَوَالِ الْعَقْلِ، وَانْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْلِ، وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنَ الثَّانِي. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ السُّكْرِ غَيْرَ تَنَاوُلِ الْمُسْكِرِ: إِمَّا أَلَمٌ شَدِيدٌ يَغِيبُ بِهِ الْعَقْلُ، حَتَّى يَكُونَ كَالسَّكْرَانِ، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ مَخُوفٌ عَظِيمٌ هَجَمَ عَلَيْهِ وَهْلَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُ مَنْ هَجَمَ عَلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فَهُمْ سُكَارَى مِنَ الدَّهَشِ وَالْخَوْفِ، وَلَيْسُوا بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ، فَسُكْرُهُمْ سُكْرُ خَوْفٍ وَدَهَشٍ، لَا سُكْرُ لَذَّةٍ وَطَرَبٍ. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ قُوَّةُ الْفَرَحِ بِإِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، بِحَيْثُ يَخْتَلِطُ كَلَامُهُ، وَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ، بِحَيْثُ يَزُولُ عَقْلُهُ، وَيُعَرْبِدُ أَعْظَمَ مِنْ عَرْبَدَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَرُبَّمَا قَتَلَهُ سُكْرُ هَذَا الْفَرَحِ لِسَبَبٍ طَبِيعِيٍّ، وَهُوَ انْبِسَاطُ دَمِ الْقَلْبِ وَهْلَةً وَاحِدَةً انْبِسَاطًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، وَالدَّمُ حَامِلُ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ، فَيَبْرُدُ الْقَلْبُ بِسَبَبِ انْبِسَاطِ الدَّمِ عَنْهُ، فَيَحْدُثُ الْمَوْتُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ سَكْرَانِ الْفَرَحِ بِوَجْدِ رَاحِلَتِهِ فِي الْمَفَازَةِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَشْعَرَ الْمَوْتَ " اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ " أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ، وَسَكْرَةُ الْفَرَحِ فَوْقَ سَكْرَةِ الشَّرَابِ، فَصَوِّرْ فِي نَفْسِكَ حَالَ فَقِيرٍ مَعْدُومٍ، عَاشِقٍ لِلدُّنْيَا أَشَدَّ الْعِشْقِ، ظَفِرَ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، كَيْفَ تَكُونُ سَكْرَتُهُ؟ أَوْ مَنْ غَابَ عَنْهُ غُلَامُهُ بِمَالٍ لَهُ عَظِيمٍ مُدَّةَ سِنِينَ، حَتَّى أَضَرَّ بِهِ الْعَدَمُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لَهُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَقَدْ كَسَبَ أَضْعَافَهُ؟ وَقَدْ يُوجِبُهُ غَضَبٌ شَدِيدٌ، يَحُولُ بَيْنَ الْغَضْبَانِ وَبَيْنَ تَمْيِيزِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ سُكْرُ الْغَضَبِ أَقْوَى مِنْ سُكْرِ الطَّرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْضِ الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا يَسْتَرِيبُ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ أَنَّ الْغَضَبَ إِذَا وَصَلَ بِصَاحِبِهِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَطَلَّقَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْإِغْلَاقَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ أَنَّهُ الْغَضَبُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَظُنُّهُ الْغَضَبَ، وَالشَّافِعِيُّ سَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ نَذْرَ الْغَلْقِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضْبَانَ قَدِ انْغَلَقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ، وَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ غَلْقًا فَالْغَضَبُ الشَّدِيدُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَلْقًا، وَكَذَلِكَ السُّكْرُ غَلْقٌ، وَالْجُنُونُ غَلْقٌ. فَالْغَلْقُ- وَالْإِغْلَاقُ أَيْضًا- كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَنِ انْغَلَقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ فِي طَلَاقِ الْغَضْبَانِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ السُّكْرِ: حُبُّ الصُّوَرِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُبَاحَةً أَوْ مُحَرَّمَةً، فَإِنَّ الْحُبَّ إِذَا اسْتَحْكَمَ وَقَوِيَ أَسْكَرَ صَاحِبَهُ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: سُكْرَانِ: سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ *** وَمَتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَانِ وَقَالَ آخَرُ مِنْ أَبْيَاتٍ: تَسْقِيكَ مِنْ عَيْنِهَا خَمْرًا وَمِنْ يَدِهَا *** خَمْرًا فَمَا لَكَ مِنْ سُكْرَيْنِ مِنْ بُدِّ لِي سَكْرَتَانِ وَلِلنَّدْمَانِ وَاحِــدَةٌ *** شَيْءٌ خُصِصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي وَفِي الْمُسْنَدِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ أَيْ: يُعْمِي عَنْ رُؤْيَةِ مَسَاوِئِ الْمَحْبُوبِ، وَيُصِمُّ عَنْ سَمَاعِ الْعَذْلِ وَاللَّوْمِ فِيهِ، وَإِذَا تَمَكَّنَ وَاسْتَمْكَنَ أَعْمَى قَلْبَهُ وَأَصَمَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ السُّكْرِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى سُكْرِ الْمَحَبَّةِ فَرْحَةُ الْوِصَالِ قَوِيَ السُّكْرُ وَتَضَاعَفَ، فَيَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَأَكْثَرُ مَا نَرَى مِنْ عَرْبَدَةِ الْعَاشِقِ وَتَخْلِيطِهِ هُوَ مِنْ هَذَا السُّكْرِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَلِفَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَاشْتَرَكُوا فِيهِ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُ، فَإِذَا أَفَاقُوا بَيْنَ الْأَمْوَاتِ عَلِمُوا أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ كَانُوا فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ.
الْمُوجِبَةِ لَهُ سَمَاعُ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مِنْ صُورَةٍ مُسْتَحْسَنَةٍ، وَصَادَفَتْ مَحَلًّا قَابِلًا، فَلَا تَسْأَلُ عَنْ سُكْرِ السَّامِعِ، وَهَذَا السُّكْرُ يَحْدُثُ عِنْدَهَا مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا تُوجِبُ لَذَّةً قَوِيَّةً يَنْغَمِرُ مَعَهَا الْعَقْلُ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا تُحَرِّكُ النَّفْسَ إِلَى نَحْوِ مَحْبُوبِهَا وَجِهَتِهِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَيَحْصُلُ بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ وَالشَّوْقِ وَالطَّلَبِ- مَعَ التَّخَيُّلِ لِلْمَحْبُوبِ، وَإِحْضَارِهِ فِي النَّفْسِ، وَإِدْنَاءِ صُورَتِهِ إِلَى الْقَلْبِ، وَاسْتِيلَائِهَا عَلَى الْفِكْرِ- لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ تَقْهَرُ الْعَقْلَ، فَتَجْتَمِعُ لَذَّةُ الْأَلْحَانِ، وَلَذَّةُ الْأَشْجَانِ، فَتَسْكَرُ الرُّوحُ سُكْرًا عَجِيبًا، أَقْوَى وَأَلَذَّ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ، وَتَحْصُلُ بِهِ نَشْوَةٌ أَلَذُّ مِنْ نَشْوَةِ الشَّرَابِ. وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَشْهَدَ الشَّيْخُ عَلَى السُّكْرِ بِقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِدَاوُدَ: " مَجِّدْنِي بِذَلِكَ الصَّوْتِ الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ؟ وَقَدْ أَذْهَبَتْهُ الْمَعْصِيَةُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَرُدُّهُ عَلَيْكَ، فَيَقُومُ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ فَيُمَجِّدُهُ، فَإِذَا سَمِعَ أَهْلُ الْجَنَّةِ صَوْتَهُ اسْتَفْرَغَ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَخِطَابَهُ لَهُمْ مِنْهُ إِلَيْهِمْ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدْذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ أَثَرًا فِي ذَلِكَ: كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ إِذَا سَمِعُوهُ مِنَ الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ. فَإِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ: رُؤْيَتُهُمْ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ- الَّذِي تُغْنِيهِمْ لَذَّةُ رُؤْيَتِهِ عَنِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا- فَأَمَلًا لَا تُدْرِكُهُ الْعِبَارَةُ، وَلَا قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، فَهَذَا صَوْتٌ لَا يَلِجُ كُلَّ أُذُنٍ، وَصَيِّبٌ لَا تَحْيَا بِهِ كُلُّ أَرْضٍ، وَعَيْنٌ لَا يَشْرَبُ مِنْهَا كُلُّ وَارِدٍ، وَسَمَاعٌ لَا يَطْرُبُ عَلَيْهِ كُلُّ سَامِعٍ، وَمَائِدَةٌ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهَا طُفَيْلِيٌّ. فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، فَنَقُولُ: السُّكْرُ سَبَبُهُ اللَّذَّةُ الْقَاهِرَةُ لِلْعَقْلِ، وَسَبَبُ اللَّذَّةِ إِدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ قَوِيَّةً، وَإِدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ قَوِيًّا، كَانَتِ اللَّذَّةُ بِإِدْرَاكِهِ تَابِعَةً لِقُوَّةِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ قَوِيًّا مُسْتَحْكَمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا حَدَثَ السُّكْرُ الْمُخْرِجُ لَهُ عَنْ حُكْمِهِ، فَقَدْ يُضَافُ إِلَى قُوَّةِ الْوَارِدِ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى ضَعْفِ الْمَحَلِّ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْأَمْرَانِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَعُيُونُ الْفَنَاءِ لَا تَقْبَلُهُ، وَمَنَازِلُ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ. لَمَّا كَانَ الْفَنَاءُ يُفْنِي مِنَ الْعَبْدِ كُلَّ مَا سِوَى مَشْهُودِهِ، وَيُفْنِي مَعَانِيَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ السُّكْرُ كَمَا حَدَّهُ بِأَنَّهُ سُقُوطُ التَّمَالُكِ فِي الطَّرَبِ- كَانَ فِي السَّكْرَانِ بَقِيَّةُ طَرَبٍ بِهَا، وَأَحَسَّ بِهَا بِطَرَبِهِ، بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَالَكْ فِي الطَّرَبِ، وَالْفَنَاءُ يَأْبَى ذَلِكَ، فَحَقَائِقُهُ لَا تَقْبَلُ السُّكْرَ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْفَنَاءَ اسْتِغْرَاقٌ مَحْضٌ، وَالسُّكْرَ مَعَهُ لَذَّةٌ وَطَرَبٌ لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْنَى عَنْهَا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ الْوَاصِلِينَ؛ لِأَنَّ أَعْلَى مَقَامَاتِهِمْ هُوَ الْفَنَاءُ عِنْدَهُ، فَمَقَامُهُمْ لَا يَقْبَلُ السُّكْرَ. قَوْلُهُ: " وَمَنَازِلُ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ " صَحِيحٌ، فَإِنَّ عِلْمَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ وَالْعِشْقِ شَيْءٌ وَحَالَ الْمَحَبَّةِ شَيْءٌ آخَرُ، وَالسُّكْرُ لَا يَنْشَأُ عَنْ عِلْمِ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ حَالِهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: السُّكْرُ صِفَةٌ وَحَالَةُ نَقْصٍ لِمَنْ مَقَامُهُ فَوْقَ مَقَامِ الْعِلْمِ، وَدُونَ مَقَامِ الشُّهُودِ وَالْفَنَاءِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَحَبَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ آخِرُ مَنْزِلَةٍ يَلْتَقِي فِيهَا مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ- وَهُمْ أَهْلُ طَوْرِ الْعِلْمِ- وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ- وَهُمْ أَهْلُ طَوْرِ الشُّهُودِ وَالْفِنَاءِ- فَالْبَرْزَخُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ: هُوَ مَقَامُ الْمَحَبَّةِ، فَاخْتُصَّ بِهِ السُّكْرُ.
قَالَ: وَلِلسُّكْرِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: الضِّيقُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَبَرِ، وَالتَّعْظِيمُ قَائِمٌ. وَاقْتِحَامُ لُجَّةِ الشَّوْقِ، وَالتَّمَكُّنُ دَائِمٌ. وَالْغَرَقُ فِي بَحْرِ السُّرُورِ، وَالصَّبْرُ هَائِمٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْمُحِبَّ تَشْغَلُهُ شِدَّةُ وَجْدِهِ بِالْمَحْبُوبِ، وَحُضُورُ قَلْبِهِ مَعَهُ، وَذَوَبَانُ جَوَارِحِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحُبِّ عَنْ سَمَاعِ الْخَبَرِ عَنْهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ الْخَبَرُ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَذِكْرِهِ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُنَا لَمَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: كَيْفَ يَشْبَعُونَ مِنْ كَلَامِ مَحْبُوبِهِمْ، وَهُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِمْ؟ وَالَّذِي يُرِيدُهُ الشَّيْخُ وَأَمْثَالُهُ بِهَذَا: أَنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ يَمْتَلِئُ قَلْبُهُ بِالْمَحَبَّةِ، فَتَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةُ عَلَيْهِ، فَتَحْمِلُهُ غَلَبَتُهَا وَتَمَكُّنُهَا عَلَى أَنْ لَا يَغْفَلَ عَنْ مَحْبُوبِهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ بِغَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، فَيَسْمَعُ مِنَ الْفَارِغِينَ مَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْمُحِبِّينَ، وَيَسْمَعُ مِنْهُمْ أَوْصَافَ حَبِيبِهِ وَالْخَبَرَ عَنْهُ، فَلَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَبَدًا، لِضِيقِ قَلْبِهِ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ، وَإِلَّا فَلَوْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ مِمَّنْ هُوَ شَرِيكُهُ فِي شَجْوِهِ وَأَنِيسُهُ فِي طَرِيقِهِ، وَصَاحِبُهُ فِي سَفَرِهِ لَمَا ضَاقَ عَنْهُ، بَلْ لَاتَّسَعَ لَهُ غَايَةَ الِاتِّسَاعِ فَهَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ: أَنَّ السَّكْرَانَ بِالْمَحَبَّةِ قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمُشَاهَدَةِ الْمَحْبُوبِ، فَاجْتَمَعَتْ قُوَى قَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَإِرَادَتِهِ عَلَيْهِ، وَمَعَانِي الْخَبَرِ فِيهَا كَثْرَةٌ، وَانْتِقَالٌ مِنْ مَعْنًى إِلَى مَعْنًى، فَقَلْبُهُ يَضِيقُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَنْهَا حَتَّى إِذَا صَحَا اتَّسَعَ قَلْبُهُ لَهَا. قَوْلُهُ: " وَالتَّعْظِيمُ قَائِمٌ " أَيْ: ضِيقُ قَلْبِهِ عَنِ اشْتِغَالِهِ بِالْخَبَرِ لَيْسَ اطِّرَاحًا لَهُ وَرَغْبَةً عَنْهُ، وَكَيْفَ؟ وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَارِدًا مِنْهُ؟ بَلْ لِضِيقِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَتَعْظِيمِهِ قَائِمٌ فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ مَشْغُولٌ بِوَجْدِهِ وَحَالِهِ عَمَّا يُفَرِّقُهُ عَنْهُ، وَهَذَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ الْمُشْتَغَلُ بِهِ أَحَبَّ إِلَى حَبِيبِهِ مِنَ الْمُشْتَغَلِ عَنْهُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ أَحَبَّ إِلَى الْحَبِيبِ مِمَّا اشْتَغَلَ بِهِ فَشَرْعُ الْمَحَبَّةِ يُوجِبُ عَلَيْهِ إِيثَارَ أَعْظَمِ الْمَحْبُوبَيْنِ إِلَى حَبِيبِهِ، وَإِلَّا كَانَ مَعَ نَفْسِهِ وَوَجْدِهِ وَلَذَّتِهِ. قَوْلُهُ: " وَاقْتِحَامُ لُجَّةِ الشَّوْقِ وَالتَّمَكُّنُ دَائِمٌ " اقْتِحَامُ لُجَّةِ الشَّوْقِ: هُوَ رُكُوبُ بَحْرِهِ، وَتَوَسُّطُهُ، لَا الدُّخُولُ فِي حَاشِيَتِهِ وَطَرَفِهِ، وَالتَّمَكُّنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ: هُوَ لُزُومُ أَحْكَامِ الْعِلْمِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَلُزُومُ أَحْكَامِ الْوَرَعِ، وَالْقِيَامِ بِالْأَوْرَادِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلُزُومُ ذَلِكَ وَدَوَامُهُ عَلَامَةُ صِحَّةِ الشَّوْقِ. قَوْلُهُ: " وَالْغَرَقُ فِي بَحْرِ السُّرُورِ، وَالصَّبْرُ هَائِمٌ " أَيْ: يَكُونُ الْمُحِبُّ غَرِيقًا فِي بَحْرِ السُّرُورِ، وَلَا يُفَارِقُهُ السُّرُورُ، حَتَّى كَأَنَّهُ بَحْرٌ قَدْ غَرِقَ فِيهِ، فَكَمَا أَنَّ الْغَرِيقَ لَا يُفَارِقُهُ الْمَاءُ، كَذَلِكَ الْمُحِبُّ لَا يُفَارِقُهُ السُّرُورُ، وَمَنْ ذَاقَ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ عَرَفَ صِحَّةَ مَا يَقُولُهُ الشَّيْخُ، فَإِنَّ نَعِيمَ الْمَحَبَّةِ فِي الدُّنْيَا رَقِيقُهُ وَلَطِيفُهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُوَ جَنَّةُ الدُّنْيَا، فَمَا طَابَتِ الدُّنْيَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَا الْجَنَّةُ إِلَّا بِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، فَنَعِيمُ الْمُحِبِّ دَائِمٌ، وَإِنْ مُزِجَ بِالْآلَامِ أَحْيَانًا، فَلَوْ عَرَفَ الْمَشْغُولُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مَا فِيهِ أَهْلُ مَحَبَّتِهِ، وَذِكْرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مِنَ النَّعِيمِ لَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ حَسَرَاتٍ، وَلَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي حَصَّلُوهُ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا ضَيَّعُوهُ وَحُرِمُوهُ. كَمَا قِيلَ: وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي نَعِيمِــهَا *** وَأَنْتَ وَحِيدٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ عَاشِقِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا النَّاسُ إِلَّا الْعَاشِقُونَ ذُوُو الْهَوَى *** وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ وَيَعْشَقُ وَقَالَ الْآخَرُ: هَلِ الْعَيْشُ إِلَّا أَنْ تَرُوحَ وَتَغْتَــدِي *** وَأَنْتَ بِكَأْسِ الْعِشْقِ فِي النَّاسِ نَشْوَانُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا تَلِفَتْ إِلَّا مِنَ الْعِشْقِ مُهْجَتِـي *** وَهَلْ طَابَ عَيْشٌ لِامْرِئٍ غَيْرِ عَاشِقِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا سَرَّنِي أَنِّي خَلِيٌّ مِنَ الْهَــوَى *** وَلَوْ أَنَّ لِي مَا بَيْنَ شَرْقٍ وَمَغْـرِبِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ صَبَابَـــةٍ *** وَلَا فِي نَعِيمٍ لَيْسَ فِيهِ حَبِيــبُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا طَابَتِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مَحَبَّــةٍ *** وَأَيُّ نَعِيمٍ لِامْرِئٍ غَيْرِ عَاشِــقِ وَقَالَ الْآخَرُ: اسْكُنْ إِلَى سَكَنٍ تَلَذُّ بِحُبِّـــهِ *** ذَهَبَ الزَّمَانُ وَأَنْتَ مُنْفَرِدٌ بِــهِ وَقَالَ الْآخَرُ: إِذَا لَمْ تَذُقْ فِي هَذِهِ الدَّارِ صَبْوَةً *** فَمَوْتُكَ فِيهَا وَالْحَيَاةُ سَــوَاءُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا ذَاقَ طَعْمَ الْعَيْشِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ *** حَبِيبٌ إِلَيْهِ يَطْمَئِنُّ وَيَسْكُـــنُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزُرْ *** حَبِيبًا وَلَا وَافَى إِلَيْكَ حَبِيــبُ قَالَ الْآخَرُ: يَزُورُ فَتَنْجَلِي عَنِّـي هِمُـــومٌ *** لِأَنَّ جِلَاءَ حُزْنِي فِي يَدَيْــهِ وَيَمْضِي بِالْمَسَرَّةِ حِينَ يَمْضِـــي *** لِأَنَّ حَوَالَتِي فِيهَا عَلَيْـــهِ قَالَ أَبُو الْمِنْجَابِ: رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ فَتًى نَحِيفَ الْجِسْمِ، بَيْنَ الضَّعْفِ، يَلُوذُ وَيَتَعَوَّذُ، وَيُنْشِدُ: وَدِدْتُ بِأَنَّ الْحُبَّ يُجْمَعُ كُلَّــهُ *** فَيُقْذَفُ فِي قَلْبِي وَيَنْغَلِقُ الصَّــدْرُ وَلَا يَنْقَضِي مَا فِي فُؤَادِي مِنَ الْهَوَى *** وَمِنْ فَرَحِي بِالْحُبِّ أَوْ يَنْقَضِي الْعُمْرُ وَالْأَخْبَارُ فِي الْمُحِبِّينَ وَأَشْعَارِهِمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، هَذَا وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُعَذَّبٌ بِمَحْبُوبِهِ سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَلَوْ ظَفِرَ بِوِصَالِهِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ قَصَرَ حُبَّهُ عَلَى الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ؟ وَكُلَّمَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى مَحَبَّةِ غَيْرِهِ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى *** مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: " وَالصَّبْرُ هَائِمٌ " أَيْ: يَكُونُ غَرِيقًا فِي سُرُورِهِ بِالْمَحَبَّةِ وَصَبْرُهُ مَفْقُودٌ، وَ " الْهَيَمَانُ " هُوَ التَّشَتُّتُ وَالْحَيْرَةُ. قَوْلُهُ: وَمَا سِوَى هَذَا فَحَيْرَةٌ تُنْحَلُ اسْمَ السُّكْرِ جَهْلًا، أَوْ هَيَمَانًا يُسَمَّى بِاسْمِهِ جُورًا، يَقُولُ: وَمَا سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعَلَامَاتِ الثَّلَاثِ- وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَحَبَّةِ- إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى سُكْرًا، مِثْلَ الْحَيَاةِ فَإِنَّهَا تُعْطَى اسْمَ السُّكْرِ عِنْدَ الْجُهَّالِ، وَمِثْلَ الْهَيَمَانِ فَإِنَّهُ يُسَمِّيهِ مَنْ لَا يَعْرِفُ السُّكْرَ سُكْرًا، وَذَلِكَ جَوْرٌ وَخُرُوجٌ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَعُدُولٌ عَنِ الصَّوَابِ. قَوْلُهُ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَكُلُّهُ يُنَاقِضُ الْبَصَائِرَ، كَسُكْرِ الْحِرْصِ، وَسُكْرِ الْجَهْلِ، وَسُكْرِ الشَّهْوَةِ؛ أَيْ: هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ السُّكْرِ أَنْوَاعٌ مَذْمُومَةٌ، تُنَاقِضُ الْبَصَائِرَ، فَسُكْرُ الْحِرْصِ يَنْشَأُ مِنْ شِدَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَعَدَمِ الزُّهْدِ فِيهَا، وَالْحَرِيصُ عَلَيْهَا سَكْرَانٌ فِي صُورَةِ صَاحٍ، وَكَذَلِكَ سُكْرُ الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ الْجَهْلَ جَهْلَانِ: جَهْلُ الْعِلْمِ، وَجَهْلُ الْعَمَلِ، فَإِذَا تَحَكَّمَ الْجَهْلَانِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْ سُكْرِ صَاحِبِهِمَا، وَكَذَلِكَ سُكْرُ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ لَهَا سُكْرًا أَشَدَّ مِنْ سُكْرِ الْخَمْرِ، وَكَذَلِكَ سُكْرُ الْغَضَبِ، وَسُكْرُ الْفَرَحِ، وَكَذَلِكَ سُكْرُ السُّلْطَانِ وَالرِّئَاسَةِ، فَإِنَّ لِلرِّئَاسَةِ سُكْرًا وَعَرْبَدَةً لَا تَخْفَى، وَكَذَلِكَ الشَّبَابُ لَهُ سَكْرَةٌ قَوِيَّةٌ، وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ، لَهُ سَكْرَةٌ تَحُولُ بَيْنَ الْخَائِفِ وَبَيْنَ حُكْمِ الْعَقْلِ. سَكَرَاتٌ خَمْسٌ إِذَا مُنِيَ الْمَــرْ *** ءُ بِهَا صَارَ ضِحْكَةً لِلزَّمَــــانِ سَكْرَةُ الْحِرْصِ وَالْحَدَاثَةِ وَالْعِشْـ *** ـقِ وَسُكْرِ الشَّرَابِ وَالسُّلْطَانِ وَآخِرُ ذَلِكَ سَكْرَةُ الْمَوْتِ الَّتِي تَأْتِي بِالْحَقِّ} هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:(بَابُ الصَّحْوِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ صَعِقَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَأَخَذَهُمْ شِبْهُ الْغَشْيِ مِنْ تَكَلُّمِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَإِذَا كَشَفَ الْفَزَعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَخَلَّى عَنْهَا، وَأَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ الْغَشْيِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَسْتَخْبِرُ كُلُّ أَهْلِ سَمَاءٍ مَنْ يَلِيهِمْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَسْأَلُونَ جِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ، مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُ: قَالَ الْحَقَّ. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. قَالَ: الصَّحْوُ: فَوْقَ السُّكْرِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ مَقَامَ الْبَسْطِ، وَالصَّحْوُ: مَقَامٌ صَاعِدٌ عَنْ الِانْتِظَارِ، مُغْنٍ عَنِ الطَّلَبِ، طَاهِرٌ مِنَ الْحَرَجِ، فَإِنَّ السُّكْرَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِّ، وَالصَّحْوَ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَقِّ، كُلُّ مَا كَانَ فِي عَيْنِ الْحَقِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَيْرَةٍ، لَا حَيْرَةَ الشُّبْهَةِ، بَلْ حَيْرَةَ مُشَاهَدَةِ نُورِ الْعِزَّةِ، وَمَا كَانَ بِالْحَقِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ صِحَّةٍ. وَلَمْ تَحِفْ عَلَيْهِ نَقِيصَةٌ، وَلَمْ تَتَعَاوَرْهُ عِلَّةٌ. وَالصَّحْوُ: مِنْ مَنَازِلِ الْحَيَاةِ، وَأَوْدِيَةِ الْجَمْعِ، وَلَوَائِحِ الْوُجُودِ. قَوْلُهُ: " الصَّحْوُ فَوْقَ السُّكْرِ " يَعْنِي: أَنَّ السُّكْرَ يَكُونُ فِي الِانْفِصَالِ. وَالصَّحْوُ فِي الِاتِّصَالِ، وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ فَنَاءٌ، وَالصَّحْوُ بَقَاءٌ. وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ غَيْبَةٌ وَالصَّحْوُ حُضُورٌ، وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ غَلَبَةٌ وَالصَّحْوُ تَمَكُّنٌ، وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ كَالنَّوْمِ وَالصَّحْوُ كَالْيَقَظَةِ. وَبَعْضُهُمْ يُفَضِّلُ مَقَامَ السُّكْرِ عَلَى مَقَامِ الصَّحْوِ وَيَقُولُ: لَوْلَا الْبَقِيَّةُ الَّتِي بَقِيَتْ فِيهِ لَمَا صَحَا، وَيُنْشِدُ مُتَمَثِّلًا: وَمَهْمَا بَقَى لِلصَّحْوِ فِيكَ بَقِيَّــةٌ *** يَجِدْ نَحْوَكَ اللَّاحِي سَبِيلًا إِلَى الْعَذْلِ وَهَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ، لِمَا ذَكَرْنَا. نَعَمِ السُّكْرُ فَوْقَ الصَّحْوِ الْفَارِغِ، وَالسَّكْرَانُ بِالْمَحَبَّةِ خَيْرٌ مِنَ الصَّاحِي مِنْهَا، وَالصَّاحِي بِهَا خَيْرٌ مِنَ السَّكْرَانِ فِيهَا. قَوْلُهُ: " وَهُوَ يُنَاسِبُ مَقَامَ الْبَسْطِ " وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا؛ أَنَّ الِانْبِسَاطَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الصَّحْوِ، وَإِلَّا فَالسُّكْرُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْبِسَاطَ. قَوْلُهُ: " وَالصَّحْوُ مَقَامٌ صَاعِدٌ عَنْ الِانْتِظَارِ " يَعْنِي: انْتِظَارَ الْحُضُورِ فَإِنَّ الصَّاحِيَ مُتَمَكِّنٌ فِي الْحُضُورِ؛ وَلِذَلِكَ أَشْبَهَ مَقَامُهُ مَقَامَ الْبَسْطِ، فَالصَّحْوُ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَصْحَبَهُ الِانْتِظَارُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدِ اتَّصَلَ، فَهُوَ لَا يَنْتَظِرُ الِاتِّصَالَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مُغْنٍ عَنِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ الطَّالِبَ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْوُصُولَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَهَذَا قَدِ اتَّصَلَ، فَصَحْوُهُ مُغْنٍ لَهُ عَنْ طَلَبِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ الطَّلَبَ لَا يُفَارِقُ الْعَبْدَ مَا دَامَتِ الْحَيَاةُ تَصْحَبُهُ، نَعَمْ؛ صَحْوُهُ مُغْنٍ عَنْ طَلَبِ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِهِ، وَأَمَّا طَلَبُ مَحَابِّ مَحْبُوبِهِ وَمَرَاضِيهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مَا يَكُونُ لَهَا طَلَبًا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ: أَنَّهُ مُغْنٍ عَنِ التَّوَجُّهِ وَالسُّلُوكِ، فَإِنَّهُ وَاصِلٌ، وَالسَّالِكُ لَا يَزَالُ فِي الطَّرِيقِ. قُلْتُ: الْعَبْدُ لَا يَزَالُ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى يَلْحَقَ اللَّهَ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَهُوَ الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ. وَتَقْسِيمُ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى طَالِبٍ وَسَالِكٍ وَوَاصِلٍ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارٍ، فَاسِدٌ بِاعْتِبَارٍ، فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا السَّيْرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ السَّيْرِ إِلَى بَيْتِهِ، فَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: طَالِبٌ لِلسَّفَرِ، وَمُسَافِرٌ فِي الطَّرِيقِ، وَوَاصِلٌ إِلَى الْبَيْتِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِهِ. فَنَقُولُ- وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَمِنْهُ الِاسْتِمْدَادُ- وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ: هَذَا الْمِثَالُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، فَإِنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْبَيْتِ هُوَ غَايَةُ الطَّرِيقِ، فَإِذَا وَصَلَ فَقَدِ انْقَطَعَتْ طَرِيقُهُ، وَانْتَهَى سَفَرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوُصُولُ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ إِلَى اللَّهِ جَذَبَهُ سَيْرُهُ، وَقَوِيَ سَفَرُهُ، فَعَلَامَةُ الْوُصُولِ إِلَى اللَّهِ: الْجِدُّ فِي السَّيْرِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي السَّفَرِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ مَفْرِقُ الطَّرِيقَيْنِ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ وَالْمُلْحِدِينَ، فَالْمُلْحِدُ يَقُولُ: السَّفَرُ وَسِيلَةٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ بَطَالَةٌ، وَمَتَى وَصَلَ الْعَبْدُ سَقَطَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ السَّفَرِ، وَصَارَ كَمَا قِيلَ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى *** كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ وَدُعِيَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَقَدْ أُقِيمَتْ، فَقَالَ: يُطَالِبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا *** فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ وَقِيلَ لِمُلْحِدٍ آخَرَ مِنْهُمْ: أَلَا تُصَلِّي؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ مَعَ أَوْرَادِكِمْ، وَنَحْنُ مَعَ وَارِدَاتِنَا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ صَاحَ بِهِمْ أَئِمَّةُ الطَّرِيقِ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَصَلُوا وَلَكِنْ إِلَى الشَّيْطَانِ لَا إِلَى الرَّحْمَنِ، وَقَالَ آخَرُ: وَصَلُوا وَلَكِنْ إِلَى سَقَرٍ. فَكُلُّ وَاصِلٍ إِلَى اللَّهِ: فَهُوَ طَالِبٌ لَهُ، وَسَالِكٌ فِي طَرِيقِ مَرْضَاتِهِ. نَعَمْ؛ بِدَايَةُ الْأَمْرِ الطَّلَبُ، وَتَوَسُّطُهُ السُّلُوكُ، وَنِهَايَتُهُ الْوُصُولُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَقِيقَةِ الْوُصُولِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ: " مُغْنٍ عَنِ الطَّلَبِ " كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَحَمْلٍ عَلَى مَعْنًى يَصِحُّ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مُغْنٍ عَنْ تَكَلُّفِ الطَّلَبِ، فَلَا يُرِيدُ هَذَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مُغْنٍ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ، وَلَكِنْ لَا يُرِيدُهُ. وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْأَوَّلِيَّةِ، حَيْثُ تَنْطَوِي الْأَكْوَانُ وَالْأَسْبَابُ، وَلَا يَبْقَى لِلطَّلَبِ تَأْثِيرٌ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ، وَحُصُولُ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَلَا بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّنْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الْمُوجِدُ وَالْمُعِدُّ وَالْمُمِدُّ، وَبِيَدِهِ الْأَسْبَابُ وَسَبَبِيَّتُهَا وَقُوَاهَا وَمَوَانِعُهَا وَمَعَارِضُهَا، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ وَبِهِ، وَمَصِيرُهُ إِلَيْهِ، فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّلَبِ. قَوْلَهُ: " طَاهِرٌ مِنَ الْحَرَجِ " أَيْ: خَالٍ مِنْهُ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ فِي سُكْرِهِ وَصَحْوِهِ. قَوْلُهُ: " فَإِنَّ السُّكْرَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِّ، وَالصَّحْوَ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَقِّ ". يُرِيدُ: أَنَّ السُّكْرَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ، فَقَلْبُهُ مُسْتَغْرِقٌ فِي الْحُبِّ، وَالصَّحْوَ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَقِّ؛ أَيْ: بِوُجُودِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ وَعِبَارَةٍ وَافِيَةٍ، فَنَقُولُ- وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ: الْمُحِبُّ لَهُ حَالَتَانِ أَيْ: لِلَّهِ: حَالَةُ اسْتِغْرَاقٍ فِي مَحَبَّةِ مَحْبُوبِهِ، كَاسْتِغْرَاقِ صَاحِبِ السُّكْرِ فِي سُكْرِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ مُتَّسَعٌ لِسِوَاهُ، وَلَا فَضْلَ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا رَآهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ: ظَنَّهُ سُكْرًا، فَهَذَا اسْتِغْرَاقٌ فِي مَحْبُوبِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: حَالَةُ صَحْوٍ، يَفِيقُ فِيهَا عَلَى عُبُودِيَّتِهِ وَالْقِيَامِ بِمَرْضَاتِهِ، كَالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَحَابِّهِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْحَالِ بِهِ؛ أَيْ: مُتَصَرِّفٌ فِي أَوَامِرِهِ وَمَحَابِّهِ بِهِ، لَيْسَ غَائِبًا عَنْهُ بِأَوَامِرِهِ، وَلَا غَائِبًا بِهِ عَنْ أَوَامِرِهِ، فَلَا يَشْغَلُهُ وَاجِبٌ أَوْ أَمْرٌ وَحُقُوقُهُ عَنْ وَاجِبِ مَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَلَا يَشْغَلُهُ وَاجِبُ حُبِّهِ عَنْ أَوَامِرِهِ، بَلْ هُوَ مُقْتَدٍ بِإِمَامِ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الْمَحَبَّةِ- وَهِيَ الْخُلَّةُ- وَلَمْ يَشْغَلْهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِخِصَالِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْخِتَانِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، فَضْلًا عَمَّا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَوَفَّى الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُمَا، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}. قَوْلُهُ: وَكُلَّمَا كَانَ فِي عَيْنِ الْحَقِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَيْرَةٍ. يُرِيدُ بِذَلِكَ: تَفْضِيلَ مَقَامِ الصَّحْوِ عَلَى مَقَامِ السُّكْرِ، وَرَفْعَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ السُّكْرَ لَمَّا كَانَ فِي عَيْنِ الْحَقِّ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِنَوْعٍ مِنَ الْحَيْرَةِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ فَقَالَ: " لَا حَيْرَةَ الشُّبْهَةِ " فَإِنَّهَا تُنَافِي أَصْلَ عَقْدِ الْإِيمَانِ، " وَلَكِنْ حَيْرَةَ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ الْعِزَّةِ " وَهِيَ دَهْشَةٌ تَعْتَرِي الشَّاهِدَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ جِدًّا، لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهِ، بِخِلَافِ مَقَامِ " الصَّحْوِ " فَإِنَّهُ- لِقُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ وَتَمَكُّنِهِ- لَا يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: أَنَّ مَنْ كَانَ نَاظِرًا فِي عَيْنِ الْحَقِيقَةِ لَزِمَتْهُ الْحَيْرَةُ، وَهِيَ حَيْرَةُ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ الْعِزَّةِ، لَا حَيْرَةَ مَنْ ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ مَقْصُودِهِ، فَإِنَّ الشُّبْهَةَ هِيَ اشْتِبَاهُ الطَّرِيقِ عَلَى السَّالِكِ، بِحَيْثُ لَا يَدْرِي أَعَلَى حَقٍّ هُوَ أَمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانٌ أَنَّ مُشَاهَدَةَ نُورِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ مُحَالٌ، فَلَا نُعِيدُهُ. قَوْلُهُ: وَمَا كَانَ بِالْحَقِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ صِحَّةٍ، وَلَمْ تَحِفْ عَلَيْهِ نَقِيصَةٌ، وَلَمْ تَتَعَاوَرْهُ عِلَّةٌ، هَذَا تَقْرِيرٌ مِنْهُ لِرَفْعِ مَقَامِ الصَّحْوِ عَلَى مَقَامِ السُّكْرِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ بِاللَّهِ كَانَ مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَصْدَرُ كُلِّ بَاطِلٍ، وَهَذَا الْحِفْظُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " فَأَيْنَ الْبَاطِلُ هَاهُنَا؟ ثُمَّ قَالَ: " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي " تَحْقِيقًا لِحِفْظِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَبَطْشِهِ وَمَشْيِهِ. قَوْلُهُ: " وَلَمْ تَتَعَاوَرْهُ عِلَّةٌ " التَّعَاوُرُ: الِاخْتِلَافُ؛ أَيْ: لَمْ تَتَخَالَفْ عَلَيْهِ الْعِلَلُ، وَالْعِلَلُ مُلَاحَظَةُ الْأَغْيَارِ، وَطَاعَةُ الْقَلْبِ لِلسِّوَى، وَإِجَابَتُهُ لِدَاعِيهِ. قَوْلُهُ: " وَالصَّحْوُ مِنْ مَنَازِلِ الْحَيَاةِ، وَأَوْدِيَةِ الْجَمْعِ، وَلَوَائِحِ الْوُجُودِ " هَذَا تَقْرِيرٌ أَيْضًا لِرَفْعِ مَقَامِهِ عَلَى مَقَامِ السُّكْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَيَاةِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَقْسَامِهَا. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الصَّحْوِ وَالْحَيَاةِ: أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْمُصَحِّحَةُ لِجَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَهِيَ الَّتِي تَرْمِي عَلَى جَمِيعِهَا كَمَا تَرْمِي الْأَوْدِيَةُ أَمْوَاهَهَا عَلَى الْبِحَارِ. قَوْلُهُ: " وَأَوْدِيَةِ الْجَمْعِ " الْجَمْعُ يُرَادُ بِهِ جَمْعُ الْوُجُودِ، وَجَمْعُ الشُّهُودِ، وَجَمْعُ الْإِرَادَةِ، فَالْأَوَّلُ: جَمْعُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَالثَّانِي: جَمْعُ أَهْلِ الْفَنَاءِ. وَالثَّالِثُ: جَمْعُ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْجَمْعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالصَّحْوُ مِنْ أَوْدِيَةِ الْجَمْعِ الْعَالِي لَا النَّازِلِ وَلَا الْمُتَوَسِّطِ. قَوْلُهُ: " وَلَوَائِحِ الْوُجُودِ " اللَّوَائِحُ جَمْعُ لَائِحَةٍ، وَهِيَ مَا يَلُوحُ لَكَ كَالْبَرْقِ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْوُجُودِ الَّذِي الصَّحْوُ مِنْ لَوَائِحِهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ(بَابُ الِاتِّصَالِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} آيَسَ الْعُقُولَ، فَقَطَعَ الْبَحْثُ بِقَوْلِهِ: " أَوْ أَدْنَى ". كَأَنَّ الشَّيْخَ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الَّذِي دَنَى فَتَدَلَّى فَكَانَ- مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا- وَإِنْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ- فَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} هَكَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وَهَذَا جِبْرِيلُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِالْقُوَّةِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {ذُو مِرَّةٍ} أَيْ: حُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمَذْكُورُ فِي التَّكْوِيرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} وَهُوَ نَاحِيَةُ السَّمَاءِ الْعُلْيَا، وَهَذَا اسْتِوَاءُ جِبْرِيلَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَأَمَّا اسْتِوَاءُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ فَعَلَى عَرْشِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فَهَذَا دُنُوُّ جِبْرِيلَ وَتَدَلِّيهِ إِلَى الْأَرْضِ، حَيْثُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ. فَهُنَاكَ دَنَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْهُ وَتَدَلَّى. فَالدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ الدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي فِي الْآيَةِ، وَإِنِ اتَّفَقَا فِي اللَّفْظِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} وَالْمَرْئِيُّ عِنْدَ السِّدْرَةِ: هُوَ جِبْرِيلُ قَطْعًا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ ذَاكَ جِبْرِيلُ. السَّادِسُ: أَنَّ مُفَسِّرَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ}، وَفِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}، وَفِي قَوْلِهِ: فَاسْتَوَى، وَفِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} وَاحِدٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ الْمُفَسِّرِ وَالْمُفَسَّرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. السَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّسُولَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ: الْمَلَكِيُّ، وَالْبَشَرِيُّ، وَنَزَّهَ الْبَشَرِيَّ عَنِ الضَّلَالِ وَالْغِوَايَةِ، وَنَزَّهَ الْمَلَكِيَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا قَبِيحًا ضَعِيفًا، بَلْ هُوَ قَوِيٌّ كَرِيمٌ حَسَنُ الْخُلُقِ، وَهَذَا نَظِيرُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ سَوَاءً. الثَّامِنُ: أَنَّهُ أَخْبَرَ هُنَاكَ أَنَّهُ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَهَاهُنَا أَخْبَرَ أَنَّهُ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَهُوَ وَاحِدٌ، وُصِفَ بِصِفَتَيْنِ، فَهُوَ مُبِينٌ وَهُوَ أَعْلَى، فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا عَلَا بَانَ وَظَهَرَ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {ذُو مِرَّةٍ} وَالْمِرَّةُ الْخُلُقُ الْحَسَنُ الْمُحْكَمُ، فَأَخْبَرَ عَنْ حُسْنِ خُلُقِ الَّذِي عَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَاقَ الْخَبَرَ كُلَّهُ عَنْهُ نَسَقًا وَاحِدًا. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ الْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْأُفُقِ، وَمَرَّةً عِنْدَ السِّدْرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ- وَقَدْ سَأَلَهُ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟- فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ فَكَيْفَ يُخْبِرُ الْقُرْآنُ أَنَّهُ رَآهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّى أَرَاهُ؟ " وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ أَرَهُ؛ لِأَنَّهُ- مَعَ النَّفْيِ- يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ فَقَطْ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ، وَطَرَفًا مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى السَّائِلِ، كَمَا إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ؟ فَيَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلرَّبِّ- جَلَّ جَلَالُهُ- ذِكْرٌ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} وَالَّذِي يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعَبْدِهِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ كَيْفَ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ، وَيُتْرَكُ عَوْدُهُ إِلَى الْمَذْكُورِ مَعَ كَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ؟ الثَّالِثُ عَشَرَ: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ "صَاحِبِكُمْ" وَأَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمَائِرَ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ "{شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ}" وَأَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمَائِرَ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ، وَالْخَبَرُ كُلُّهُ عَنْ هَذَيْنِ الْمُفَسَّرَيْنِ، وَهُمَا الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ، وَالرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ. الرَّابِعُ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى كَانَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَهُوَ أُفُقُ السَّمَاءِ، بَلْ هُوَ تَحْتَهَا قَدْ دَنَا مِنْ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُنُوُّ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَدَلِّيهِ- عَلَى مَا فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ- كَانَ مِنْ فَوْقِ الْعَرْشِ لَا إِلَى الْأَرْضِ. الْخَامِسُ عَشَرَ: أَنَّهُمْ لَمْ يُمَارُوهُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- عَلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِ، وَلَا أَخْبَرَهُمْ بِهَا، لِتَقَعَ مُمَارَاتُهُمْ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا مَارُوهُ عَلَى رُؤْيَةِ مَا أَخْبَرَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَلَوْ أَخْبَرَهُمُ الرَّبُّ تَعَالَى لَكَانَتْ مُمَارَاتُهُمْ لَهُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ مُمَارَاتِهِمْ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَخْلُوقَاتِ. السَّادِسُ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَّرَ صِحَّةَ مَا رَآهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مُمَارَاتَهُمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلَةٌ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فَلَوْ كَانَ الْمَرْئِيُّ هُوَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُمَارَاةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَكَانَ تَقْرِيرُ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَوْلَى، وَالْمَقَامُ إِلَيْهَا أَحْوَجَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: " آيَسَ الْعُقُولَ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَدْنَى " يَعْنِي: أَنَّ الْعُقُولَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُثْبِتَ عَلَى مَعْرِفَةِ اتِّصَالٍ هُوَ أَدْنَى مِنْ قَابَ قَوْسَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنَ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَالْعُقُولُ غَيْرُ آيِسَةٍ مِنْ دُنُوِّ رَسُولِهِ الْمَلَكِيِّ مِنْ رَسُولِهِ الْبَشَرِيِّ، حَتَّى صَارَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى مِنْ قَوْسَيْنِ، فَإِنَّهُ دُنُوُّ عَبْدٍ مِنْ عَبْدٍ، وَمَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقٍ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ " أَوْ "؟ فَيُقَالُ: هِيَ لِتَقْرِيرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْقُرْبَ إِنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنْ قَدْرِ قَوْسَيْنِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْمِائَةِ الْأَلْفِ لَمْ يَنْقُصُوا عَنْهَا. فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِنَصِّيَّةِ عَدَدِ الْمِائَةِ الْأَلْفِ، فَتَأَمَّلْهُ. قَالَ: وَالِاتِّصَالُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، ثُمَّ اتِّصَالُ الشُّهُودِ، ثُمَّ اتِّصَالُ الْوُجُودِ، وَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ الْمُرَادُ بِهِ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ، ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ. أَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ- وَهُمَا اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ- فَلَا إِشْكَالَ فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا مَقَامَا الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، فَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ مَقَامُ الْإِيمَانِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ مَقَامُ الْإِحْسَانِ. وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَرْمًى، وَكُلُّ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ- مِنَ اتِّصَالٍ صَحِيحٍ- فَهُوَ مِنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فَاتِّصَالُ الْوُجُودِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مُرَادِ الشَّيْخِ وَأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِهَذَا الِاتِّصَالِ، وَمُرَادِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ مِنْهُ، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى ذِكْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَمَّا اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}، وَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}. فَالِاعْتِصَامُ بِهِ نَوْعَانِ أَيْ: بِاللَّهِ: اعْتِصَامُ تَوَكُّلٍ وَاسْتِعَانَةٍ وَتَفْوِيضٍ وَلَجْءٍ وَعِيَاذٍ، وَإِسْلَامِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ سُبْحَانَهُ. وَالثَّانِي: اعْتِصَامٌ بِوَحْيِهِ، وَهُوَ تَحْكِيمُهُ دُونَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَمَقَايِيسِهِمْ، وَمَعْقُولَاتِهِمْ، وَأَذْوَاقِهِمْ وَكُشُوفَاتِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مُنْسَلٌّ مِنْ هَذَا الِاعْتِصَامِ، فَالدِّينُ كُلُّهُ فِي الِاعْتِصَامِ بِهِ وَبِحَبْلِهِ، عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِخْلَاصًا وَاسْتِعَانَةً، وَمُتَابَعَةً، وَاسْتِمْرَارًا عَلَى ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ: " ثُمَّ اتِّصَالُ الشُّهُودِ " وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُشَاهَدَةِ قَرِيبًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ هِيَ تَحَقُّقُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فَالِاتِّصَالُ الْأَوَّلُ اتِّصَالُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالثَّانِي اتِّصَالُ الْحَالِ وَالْمَعْرِفَةِ. قَوْلُهُ: " ثُمَّ اتِّصَالُ الْوُجُودِ " الْوُجُودُ: الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُرِيدَ الشَّيْخُ: أَنَّ وُجُودَ الْعَبْدِ يَتَّصِلُ بِوُجُودِ الرَّبِّ، فَيَصِيرُ الْكُلُّ وُجُودًا وَاحِدًا، كَمَا يَظُنُّهُ الْمُلْحِدُ، فَإِنَّ كُفْرَ النَّصَارَى جُزْءٌ يَسِيرُ مِنْ هَذَا الْكُفْرِ، وَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ- بَلْ لَا عَبْدَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ- لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ أَفْسَدَ الْخَلْقِ وَأَفْجَرَهُمْ، فَنَفْسُ وُجُودِهِ مُتَّصِلٌ بِوُجُودِ رَبِّهِ، بَلْ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهِ، بَلْ لَا رَبَّ عِنْدَهُمْ وَلَا عَبْدَ. وَإِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْخُ بِاتِّصَالِ الْوُجُودِ: أَنَّ الْعَبْدَ يَجِدُ رَبَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَاقِدًا لَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ يَطْلُبُ كَنْزًا وَلَا وُصُولَ لَهُ إِلَيْهِ، فَظَفِرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَجَدَهُ وَاسْتَغْنَى بِهِ غَايَةَ الْغِنَى، فَهَذَا اتِّصَالُ الْوُجُودِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْوُجُودُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَتَنَوَّعُ بِحَسْبِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَمَقَامِهِ، فَإِنَّ التَّائِبَ الصَّادِقَ فِي تَوْبَتِهِ إِذَا تَابَ إِلَيْهِ، وَجَدَهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُتَوَكِّلَ إِذَا صَدَقَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَجَدَهُ حَسِيبًا كَافِيًا، وَالدَّاعِيَ إِذَا صَدَقَ فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ قَرِيبًا مُجِيبًا، وَالْمُحِبَّ إِذَا صَدَقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَجَدَهُ وَدُودًا حَبِيبًا، وَالْمَلْهُوفَ إِذَا صَدَقَ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَجَدَهُ كَاشِفًا لِلْكُرَبِ مُخَلِّصًا مِنْهُ، وَالْمُضْطَرَّ إِذَا صَدَقَ فِي الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ رَحِيمًا مُغِيثًا، وَالْخَائِفَ إِذَا صَدَقَ فِي اللَّجْءِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ مُؤَمِّنًا مِنَ الْخَوْفِ، وَالرَّاجِيَ إِذَا صَدَقَ فِي الرَّجَاءِ وَجَدَهُ عِنْدَ ظَنِّهِ بِهِ. فَمُحِبُّهُ وَطَالِبُهُ وَمُرِيدُهُ الَّذِي لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلًا، وَلَا يَرْضَى بِسِوَاهُ عِوَضًا، إِذَا صَدَقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَجَدَهُ أَيْضًا وُجُودًا أَخَصَّ مِنْ تِلْكَ الْوُجُودَاتِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرِيدُ مِنْهُ يَجِدُهُ، فَكَيْفَ بِمُرِيدِهِ وَمُحِبِّهِ؟ فَيَظْفَرُ هَذَا الْوَاجِدُ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ. أَمَّا ظَفَرُهُ بِنَفْسِهِ فَتَصِيرُ مُنْقَادَةً لَهُ، مُطِيعَةً لَهُ، تَابِعَةً لِمَرْضَاتِهِ غَيْرَ آبِيَةٍ، وَلَا أَمَّارَةٍ، بَلْ تَصِيرُ خَادِمَةً لَهُ مَمْلُوكَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَخْدُومَةً مَالِكَةً. وَأَمَّا ظَفَرُهُ بِرَبِّهِ فَقُرْبُهُ مِنْهُ وَأُنْسُهُ بِهِ، وَعِمَارَةُ سِرِّهِ بِهِ، وَفَرَحُهُ وَسُرُورُهُ بِهِ أَعْظَمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ، فَهَذَا حَقِيقَةُ اتِّصَالِ الْوُجُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: فَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ، ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ. قُلْتُ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ؛ إِفْرَادُ الْمَقْصُودِ، وَجَمْعُ الْهَمِّ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَتُهُ تَوْحِيدُ الْقَصْدِ وَالْمَقْصُودِ، فَمَتَى انْقَسَمَ قَصْدُهُ أَوْ مَقْصُودُهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ " قَصْدٌ يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِيَاضِ، وَيُخَلِّصُ مِنَ التَّرَدُّدِ، وَيَدْعُو إِلَى مُجَانَبَةِ الْأَعْوَاضِ " فَالِاتِّصَالُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ بِهَذَا الْقَصْدِ. وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ " هُوَ تَخْلِيصُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَتَعَلُّقِهَا بِالسِّوَى أَوْ بِالْأَعْوَاضِ، بَلْ تَكُونُ إِرَادَةً صَافِيَةً مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِاللَّهِ وَبِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. قَوْلُهُ: " ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ " أَيْ: يَكُونُ لَهُ حَالُ مُحَقِّقٍ ثَابِتٍ، لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ حَتَّى يَصْحَبَهُ الْعَمَلُ، وَلَا بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ حَتَّى يَصْحَبَهُ الْحَالُ، فَتَصِيرُ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِنَابَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ حَالًا لِقَلْبِهِ، قَدِ انْصَبَغَ قَلْبُهُ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ تَعَطَّلَتْ جَوَارِحُهُ كَانَ قَلْبُهُ فِي الْعَمَلِ وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَمَلُ قَلْبِهِ أَقْوَى مِنْ عَمَلِ جَوَارِحِهِ. قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: اتِّصَالُ الشُّهُودِ، وَهُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الِاعْتِلَالِ، وَالْغِنَى عَنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَسُقُوطُ شَتَاتِ الْأَسْرَارِ. الِاعْتِلَالُ هُوَ الْعَوَائِقُ وَالْعِلَلُ، وَالْخَلَاصُ مِنْهَا هُوَ الصِّحَّةُ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، فَإِنَّ الْأُولَى: اتِّصَالٌ بِصِحَّةِ الْقُصُودِ وَالْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ اتِّصَالٌ بِرُؤْيَةٍ مِنَ الْعَمَلِ لَهُ، عَلَى تَحْقِيقِ مُشَاهَدَتِهِ بِالْبَصِيرَةِ، فَيَتَخَلَّصُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ مِنْ عِلَلِ الْأَعْمَالِ وَاسْتِكْثَارِهَا، وَاسْتِحْسَانِهَا وَالسُّكُونِ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: " وَالْغِنَى عَلَى الِاسْتِدْلَالِ " أَيْ: هُوَ مُسْتَغْنٍ بِمُشَاهَدَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ طَالِبَ الدَّلِيلِ إِنَّمَا يَطْلُبُهُ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ، فَإِذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْمَدْلُولِ، فَمَا لَهُ وَلِطَلَبِ الدَّلِيلِ؟ وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَــانِ شَيْءٌ *** إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ فَكَيْفَ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، مَنِ النَّهَارُ بَعْضُ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ؟ {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وَلِهَذَا خَاطَبَ الرُّسُلُ قَوْمَهُمْ خِطَابَ مَنْ لَا يَشُكُّ فِي رَبِّهِ وَلَا يَرْتَابُ فِي وُجُودِهِ {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. قَوْلُهُ: " وَسُقُوطُ شَتَاتِ الْأَسْرَارِ " يَعْنِي: أَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الِاعْتِلَالِ وَالْفَنَاءَ بِاتِّصَالِ الشُّهُودِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ يُسْقِطَانِ عَنْهُ شَتَاتَ الْأَسْرَارِ، وَهُوَ تَفَرُّقُ بَالِهِ وَتَشَتُّتُ قَلْبِهِ فِي الْأَكْوَانِ، فَإِنَّ اتِّصَالَ شُهُودِهِ يَجْمَعُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ، كَمَا أَنَّ دَوَامَ الذِّكْرِ- الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ- وَشُهُودَ الْمَذْكُورِ يَجْمَعُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُ شَتَاتَهُ، فَالشَّتَاتُ مَصْحُوبُ الْغَيْبَةِ، وَسُقُوطُهُ مَصْحُوبُ الْحُضُورِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: اتِّصَالُ الْوُجُودِ، وَهَذَا الِاتِّصَالُ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ وَلَا مِقْدَارٌ، إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ، وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ، يَقُولُ: لِمَا يُعْهَدُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاتِّصَالِ- وَكَانَ أَعَزَّ شَيْءٍ وَأَغْرَبَهُ عَنِ النُّفُوسِ عِلْمًا وَحَالًا- لَمْ تَفِ الْعِبَارَةُ بِكَشْفِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَمَلُومٌ وَالْعِبَارَةَ فَتَّانَةٌ، إِمَّا أَنْ تُزِيغَ إِلَى زِيَادَةِ مَفْسَدَةٍ أَوْ نَقْصٍ مُخِلٍّ، أَوْ تَعْدِلَ بِالْمَعْنَى إِلَى غَيْرِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تُمْكِنُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ غَلَبَهُ نُورُ الْقُرْبِ، وَتَمَكُّنُ الْمَحَبَّةِ، وَقُوَّةُ الْأُنْسِ، وَكَمَالُ الْمُرَاقَبَةِ، وَاسْتِيلَاءُ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، فَيَذْهَبُ الْعَبْدُ عَنْ إِدْرَاكِهِ بِحَالِهِ لِمَا قَهَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَبْقَى بِوُجُودٍ آخَرَ غَيْرَ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ. وَمَا أَظُنُّكَ تُصَدِّقُ بِهَذَا، وَأَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ آخَرُ، وَتَقُولُ: هَذَا خَيَالٌ وَوَهْمٌ، فَلَا تَعْجَلْ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ تُحِطْ بِعِلْمِهِ، فَضْلًا عَنْ ذَوْقِ حَالِهِ، وَأَعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا، وَخَلِّ الْمَطَايَا وَحَادِيهَا، فَلَوْ أَنْصَفْتَ لَعَرَفْتَ أَنَّ الْوُجُودَ الْحَاصِلَ لَمُعَذَّبٌ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، وَأَضْيَقِ سِجْنٍ، وَأَنْكَدِ عَيْشٍ، إِذَا فَارَقَ هَذِهِ الْحَالَ، وَصَارَ إِلَى مُلْكٍ هَنِيٍّ وَاسِعٍ، نَافِذَةٌ فِيهِ كَلِمَتُهُ مُطَاعٌ أَمْرُهُ، قَدِ انْقَادَتْ لَهُ الْجُيُوشُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، فَإِنَّ وُجُودَهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ الْوُجُودِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ عَلَى التَّقْرِيبِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، فَلِهَذَا قَالَ: " لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ " يُطَابِقُهُ وَيُحِيطُ بِهِ، فَإِنَّ الْأُمُورَ الْعَظِيمَةَ جِدًّا نَعْتُهَا لَا يَكْشِفُ حَقِيقَتَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ بَعْضَ لَوَازِمِهَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا، فَيَدُلُّ بِالْمَذْكُورِ عَلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: " وَلَا مِقْدَارَ " يُرِيدُ: مِقْدَارَ الشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ كَبِيرُ الْمِقْدَارِ. قَوْلُهُ: إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ. لَمَّا كَانَ الِاسْمُ لَا يَبْلُغُ الْحَقِيقَةَ وَلَا يُطَابِقُهَا، فَكَأَنَّهُ لِغَيْرِهَا، وَأُعِيرَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهَا عَارِيَةً، وَكَذَلِكَ اللَّمْحُ الْمُشَارُ هُوَ الَّذِي يُشَارُ بِهِ إِشَارَةً إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَبَعْدُ، فَالشَّيْخُ يُدَنْدِنُ حَوْلَ بَحْرِ الْفَنَاءِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: صَاحِبُ هَذَا الِاتِّصَالِ قَدْ فَنِيَ فِي الْوُجُودِ، بِحَيْثُ صَارَ نُقْطَةً انْحَلَّ تَعَيُّنُهَا، وَاضْمَحَلَّ تَكَوُّنُهَا، وَرَجَحَ عَوْدُهَا عَلَى بَدْئِهَا، فَفَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ، فَهُنَالِكَ طَاحَتِ الْإِشَارَاتُ، وَذَهَبَتِ الْعِبَارَاتُ، وَفَنِيَتِ الرُّسُومُ {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:(بَابُ الِانْفِصَالِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} لَيْسَ فِي الْمَقَامَاتِ شَيْءٌ فِيهِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا فِي الِانْفِصَالِ. وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُقَرِّبُ الْمُبْعِدُ، فَلْيَحْذَرِ الْقَرِيبُ مِنَ الْإِبْعَادِ وَالْمُتَّصِلُ مِنَ الِانْفِصَالِ، فَإِنَّ الْحَقَّ جَلَّ جَلَالُهُ غَيُورٌ لَا يَرْضَى مِمَّنْ عَرَفَهُ وَوَجَدَ حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَاتَّصَلَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّتِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَتَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى- أَنْ يَكُونَ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. وَمِنْ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ: حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَغَارُ أَشَدَّ الْغَيْرَةِ عَلَى عَبْدِهِ: أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى سِوَاهُ، فَإِذَا أَذَاقَهُ حَلَاوَةَ مَحَبَّتِهِ، وَلَذَّةَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ، وَأُنْسَ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ سَاكَنَ غَيْرَهُ بَاعَدَهُ مِنْ قُرْبِهِ، وَقَطَعَهُ مِنْ وَصْلِهِ، وَأَوْحَشَ سِرَّهُ، وَشَتَّتَ قَلْبَهُ، وَنَغَّصَ عَيْشَهُ، وَأَلْبَسَهُ رِدَاءَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَالْهَوَانِ، فَنَادَى عَلَيْهِ حَالُهُ، إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ قَالُهُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَعَوَّضَ عَنْ وَلِيِّهِ وَإِلَهِهِ وَفَاطِرِهِ، وَمَنْ لَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِهِ بِغَيْرِهِ وَآثَرَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، فَاتَّخَذَ سِوَاهُ لَهُ حَبِيبًا، وَرَضِيَ بِغَيْرِهِ أَنِيسًا، وَاتَّخَذَ سِوَاهُ وَلِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}. فَإِذَا ضُرِبَ هَذَا الْقَلْبُ بِسَوْطِ الْبُعْدِ وَالْحِجَابِ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَمُلِئَ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَصَارَ مَحَلًّا لِلْجِيَفِ وَالْأَقْذَارِ وَالْأَنْتَانِ، وَبُدِّلَ بِالْأُنْسِ وَحْشَةً، وَبِالْعِزِّ ذُلًّا، وَبِالْقَنَاعَةِ حِرْصًا، وَبِالْقُرْبِ بُعْدًا وَطَرْدًا، وَبِالْجَمْعِ شَتَاتًا وَتَفْرِقَةً- كَانَ هَذَا بَعْضَ جَزَائِهِ، فَحِينَئِذٍ تَطْرُقُهُ الطَّوَارِقُ وَالْمُؤْلِمَاتُ، وَتَعْتَرِيهِ وُفُودُ الْأَحْزَانِ وَالْهُمُومِ بَعْدَ وُفُودِ الْمَسَرَّاتِ. قَرَأَ قَارِئٌ بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيِّ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} فَقَالَ السَّرِيُّ: تَدْرُونَ مَا هَذَا الْحِجَابُ؟ هُوَ حِجَابُ الْغَيْرَةِ، وَلَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ. فَمَنْ عَرَفَهُ وَذَاقَ حَلَاوَةَ قُرْبِهِ وَمَحَبَّتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى مُسَاكَنَةِ غَيْرِهِ: ثَبَّطَ جَوَارِحَهُ عَنْ طَاعَتِهِ، وَعَقَلَ قَلْبَهُ عَنْ إِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَأَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّ قُرْبِهِ، وَوَلَّاهُ مَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: احْذَرْهُ، فَإِنَّهُ غَيُورٌ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى فِي قَلْبِ عَبْدِهِ سِوَاهُ. وَمِنْ غَيْرَتِهِ: أَنَّ صَفِيَّهُ آدَمَ لَمَّا سَاكَنَ بِقَلْبِهِ الْجَنَّةَ، وَحَرِصَ عَلَى الْخُلُودِ فِيهَا أَخْرَجَهُ مِنْهَا، وَمِنْ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ لَمَّا أَخَذَ إِسْمَاعِيلُ شُعْبَةً مِنْ قَلْبِهِ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، حَتَّى يُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ ذَلِكَ الْمُزَاحِمَ. إِنَّمَا كَانَ الشِّرْكُ عِنْدَهُ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ لِتَعَلُّقِ قَلْبِ الْمُشْرِكِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ كُلُّهُ بِغَيْرِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ بِكُلِّيَّتِهِ؟ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا حَلَّ بِكَ مِنْ بَلَاءِ الِانْفِصَالِ، وَذُلِّ الْحِجَابِ، فَانْظُرْ لِمَنِ اسْتَعْبَدَ قَلْبَكَ، وَاسْتَخْدَمَ جَوَارِحَكَ، وَبِمَنْ شَغَلَ سِرَّكَ، وَأَيْنَ يَبِيتُ قَلْبُكَ إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَطِيرُ إِذَا اسْتَيْقَظْتَ مِنْ مَنَامِكَ؟ فَذَلِكَ هُوَ مَعْبُودُكَ وَإِلَهُكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِيَنْطَلِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُهُ، انْطَلَقْتَ مَعَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! مَا أَشَدَّ غَبْنَ مَنْ بَاعَ أَطْيَبَ الْحَيَاةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ هُنَاكَ، وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ بِالْحَيَاةِ الْمُنَغَّصَةِ الْمُنَكَّدَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْمُدَّةُ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، أَوْ عَشِيَّةٌ أَوْ ضُحَاهَا، أَوْ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ، فِيهِ رِبْحُ الْأَبَدِ أَوْ خَسَارَةُ الْأَبَدِ. فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِـي *** وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّــهُ وَيَزُولُ
قَالَ الشَّيْخُ: لَيْسَ فِي الْمَقَامَاتِ شَيْءٌ فِيهِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا فِي الِانْفِصَالِ. يَعْنِي: أَنَّ بَيْنَ دَرَجَاتِ الْمَقَامَاتِ تَنَاسُبٌ، وَاخْتِلَافٌ يَسِيرٌ. وَمَقَامُ الِانْفِصَالِ قَلِيلُ التَّنَاسُبِ فِي دَرَجَاتِهِ، كَثِيرُ التَّفَاوُتِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ. قَالَ: وَوُجُوهُهُ ثَلَاثَةٌ، أَحَدُهَا: انْفِصَالٌ هُوَ شَرْطُ الِاتِّصَالِ، وَهُوَ الِانْفِصَالُ عَنِ الْكَوْنَيْنِ بِانْفِصَالِ نَظَرِكَ إِلَيْهِمَا، وَانْفِصَالِ تَوَقُّفِكَ عَلَيْهِمَا، وَانْفِصَالِ مُبَالَاتِكَ بِهِمَا. يَعْنِي: أَنَّ انْفِصَالَ الْعَبْدِ عَنْ رُسُومِهِ بِالْفَنَاءِ، هُوَ شَرْطُ اتِّصَالِ وَجُودِهِ بِالْبَقَاءِ، فَلَا وَلَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّا بِالْبَرَاءِ مِمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ وَيُخَالِفُهُ، وَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ لِقَوْمِهِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}، وَقَالَ الْفِتْيَةُ: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} فَلَمْ تَعْتَزِلُوهُ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ- فِي بَادِئِ الرَّأْيِ- لَا تَخْلُو عَنْ إِنْكَارٍ حَتَّى يُبَيَّنَ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا، فَإِنَّ الْكَوْنَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَعَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَفِيهِمَا الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ، فَكَيْفَ يَنْفَصِلُ عَنْهُمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَقِفُ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُبَالِي بِهِمْ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي لِسَانِ الْقَوْمِ مِنَ الِاسْتِعَارَاتِ، وَإِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ إِشَارَتِهِ دُونَ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ: مَا لَيْسَ فِي لِسَانِ أَحَدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ غَيْرُهُمْ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَصْحَابُ إِشَارَةٍ لَا أَصْحَابُ عِبَارَةٍ، وَالْإِشَارَةُ لَنَا وَالْعِبَارَةُ لِغَيْرِنَا، وَقَدْ يُطْلِقُونَ الْعِبَارَةَ الَّتِي يُطْلِقُهَا الْمُلْحِدُ، وَيُرِيدُونَ بِهَا مَعْنًى لَا فَسَادَ فِيهِ، وَصَارَ هَذَا سَبَبًا لِفِتْنَةِ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٌ تَعَلَّقُوا عَلَيْهِمْ بِظَاهِرِ عِبَارَاتِهِمْ، فَبَدَّعُوهُمْ وَضَلَّلُوهُمْ، وَطَائِفَةٌ نَظَرُوا إِلَى مَقَاصِدِهِمْ وَمَغْزَاهُمْ، فَصَوَّبُوا تِلْكَ الْعِبَارَاتِ، وَصَحَّحُوا تِلْكَ الْإِشَارَاتِ، فَطَالِبُ الْحَقِّ يَقْبَلُهُ مِمَّنْ كَانَ، وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ عَلَى مَنْ كَانَ. وَمُرَادُ الشَّيْخِ وَأَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ: أَنَّ النَّفْسَ لَمَّا كَانَتْ مَائِلَةً إِلَى الْمَلْذُوذَاتِ- الْمَحْسُوسَةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ الْمُعَايَنَةِ- كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفُ مَعَهَا عِلَّةً فِي الطَّرِيقِ وَالْقَصْدِ جَمِيعًا، وَكَانَ شَاغِلًا لَهَا عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَحْدَهُ، وَالْوُقُوفِ مَعَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَمَتَى قَوِيَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَقْصُودِ الْأَعْلَى، بِحَيْثُ يَشْغَلُهُ ذِكْرُهُ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ، وَحُبُّهُ عَنْ حُبِّ غَيْرِهِ، وَخَوْفُهُ عَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ، وَرَجَاؤُهُ عَنْ رَجَاءِ غَيْرِهِ، وَكَانَ أُنْسُهُ بِهِ خَاصَّةً- انْفَصَلَ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ فِي حَالِ شُغْلِهِ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ اتِّسَاعٌ لِغَيْرِهِ، فَانْفَصَلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ نَظَرُهُ إِلَى الْكَوْنَيْنِ، وَانْفَصَلَ تَوَقُّفُهُ عَلَيْهِمَا، وَانْفَصَلَتْ مُبَالَاتُهُ بِهِمَا ضَرَّا أَوْ نَفْعًا، أَوْ عَطَاءً أَوْ مَنْعًا، وَهَذِهِ الْحَالُ لَا تَدُومُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْكَوْنِ بِحُكْمِ طَبِيعَتِهِ، وَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَوْنِ- ذَكَرَ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْأَوْلِيَاءَ بِالتَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَذَكَرَ أَعْدَاءَهُمْ بِاللَّعْنِ وَأَقْبَحِ الذِّكْرِ- فَهَذِهِ وَظِيفَتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَتِلْكَ وَظِيفَتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ انْفِصَالُ شُهُودٍ فِي الْأَحْوَالِ، لَا انْفِصَالَ وُجُودٍ، وَلَا انْفِصَالَ شُهُودٍ دَائْمًا أَبَدًا، وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَإِنَّهُ خَيَالٌ وَخَبَالٌ وَوَهْمٌ، لَا نُطِيلُ الْكِتَابَ بِذِكْرِهِ. قَالَ: الثَّانِي: انْفِصَالٌ عَنْ رُؤْيَةِ الِانْفِصَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَتَرَاءَى عِنْدَكَ فِي شُهُودِ التَّحْقِيقِ شَيْءٌ يُوصِلُ بِالِانْفِصَالِ مِنْهُمَا إِلَى شَيْءٍ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى عِنْدَهُ مِمَّا قَبْلَهَا، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْأُولَى وَسِيلَةً إِلَيْهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ غَايَةً لَهَا وَمُرَتَّبَةً عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنَ الْكَوْنَيْنِ- شُغْلًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى مَقَامِهِ مِنَ الِانْفِصَالِ، وَيُسَاكِنُهُ بِسِرِّهِ وَقَلْبِهِ، وَيَغِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ مَحْضُ مِنَّةِ اللَّهِ، وَمُجَرَّدُ عَطَائِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ رُؤْيَةِ انْفِصَالِهِ، وَيُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ وَوَلِيِّهِ الْمَانِّ بِهِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَتَضَمَّنُ التَّفَاوُتَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى أَنَّ الِانْفِصَالَ شَرْطٌ فِي الِاتِّصَالِ، وَقَالَ هَاهُنَا: " لَا يَتَرَاءَى عِنْدَكَ فِي شُهُودِ التَّحْقِيقِ سَبَبٌ يُوصِلُ بِالِانْفِصَالِ مِنْهُمَا إِلَى شَيْءٍ " وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ مَعْنَى كَلَامَيْهِ، بَلْ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتُ التَّنَاقُضِ، فَأَيْنَ شَرْطُ حُصُولِ الشَّيْءِ مِنْ شُهُودِ عَدَمِ كَوْنِهِ سَبَبًا وَشَرْطًا؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ شَرْطًا وَسَبَبًا لِحُصُولِ شَيْءٍ لَا يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ رُؤْيَتِهِ شَرْطًا لِحُصُولِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَبِعَدَمِ رُؤْيَةِ الْعَبْدِ لَهُ، فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ مَانِعَةً، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ بِبَيَانِ كَلَامِهِ. فَقَوْلُهُ: " انْفِصَالٌ عَنْ رُؤْيَةِ الِانْفِصَالِ " يَعْنِي: أَنَّ الْعَبْدَ يَرَى- حَالَةَ الشُّهُودِ- أَنَّهُ انْفَصَلَ عَنِ الْكَوْنَيْنِ، ثُمَّ اتَّصَلَ بِجَنَابِ الْعِزَّةِ، فَيَشْهَدُ اتِّصَالًا بَعْدَ انْفِصَالٍ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ- فِي التَّحْقِيقِ- لَيْسَتْ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنِ الْكَوْنَيْنِ أَصْلًا، لَكِنَّهُ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنِ الْكَوْنَيْنِ فَقَدِ انْفَصَلَ عَنْ الِانْفِصَالِ الْمَذْكُورِ، لِتَحَقُّقِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ يَصِحُّ لَهُ انْفِصَالٌ عَنِ انْفِصَالِهِ بِقَوْلِهِ: أَنْ لَا يَتَرَاءَى؛ أَيْ: لَا يَظْهَرُ لَكَ شَيْءٌ فِي شُهُودِ التَّحْقِيقِ يَكُونُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلِاتِّصَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ تَشَهَدَ التَّحْقِيقَ، فَيُرِيكَ شُهُودُهُ: أَنَّكَ مَا انْفَصَلْتَ بِنَفْسِكَ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا اتَّصَلْتَ بِنَفْسِكَ بِشَيْءٍ، بَلِ الْأَمْرُ كُلُّهُ بِيَدِ غَيْرِكَ، فَهُوَ الَّذِي فَصَلَكَ وَهُوَ الَّذِي وَصَلَكَ. وَأَمَّا الْمُلْحِدُ: فَيُفَسِّرُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ هَذَا، وَيَقُولُ: إِذَا شَهِدْتَ الْحَقِيقَةَ أَرَتْكَ أَنَّكَ ما انْفَصَلْتَ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا اتَّصَلَتْ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ تِلْكَ اثْنِينِيَّةٌ تُنَافِي الْوَحْدَةَ الْمُطْلَقَةَ. فَانْظُرْ مَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَكَيْفَ يَجُرُّهَا كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نِحْلَتِهِ وَمَذْهَبِهِ؟ وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُلْحِدُ: إِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ اتِّصَالٌ وَلَا انْفِصَالٌ إِنَّمَا هُوَ فِي نَظَرِ الْعَبْدِ وَوَهْمِهِ فَقَطْ، فَإِذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا انْفِصَالَ وَلَا اتِّصَالَ، وَيُنْشِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْتًا مَشْهُورًا لِطَائِفَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ: فَمَا فِيكَ لِي شَيْءٌ لِشَيْءٍ مُوَافِقُ *** وَلَا مِنْكَ لِي شَيْءٌ لِشَيْءٍ مُخَالِفُ قَالَ: الثَّالِثُ: انْفِصَالٌ عَنْ الِاتِّصَالِ، وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنْ شُهُودِ مُزَاحَمَةِ الِاتِّصَالِ عَيْنَ السَّبْقِ، فَإِنَّ الِانْفِصَالَ وَالِاتِّصَالَ- عَلَى عِظَمِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالرَّسْمِ- فِي الْعِلَّةِ سِيَّانِ. الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ مَا قَبْلَهَا انْفِصَالٌ عَنْ سُكُونِهِ إِلَى انْفِصَالِهِ وَرُؤْيَتِهِ لَهُ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ انْفِصَالٌ عَنْ رُؤْيَةِ اتِّصَالِهِ، فَيَتَجَرَّدُ عَنْ رُؤْيَةِ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا، فَإِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ عِلَّةٌ فِي الِاتِّصَالِ، بَلْ كَمَالُ الِاتِّصَالِ غَيْبَتُهُ عَنْ رُؤْيَةِ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا، لِكَمَالِ اسْتِغْرَاقِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ حَقِيقَةِ الِاتِّصَالِ، فَيَحْصُلُ مِنَ الدَّرَجَتَيْنِ انْفِصَالُهُ عَنْ الِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ مَعًا. فَهَاهُنَا جَالَ الْمُلْحِدُ وَصَالَ، وَفَتَحَ فَاهُ نَاطِقًا بِالْإِلْحَادِ، وَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْفِصَالَ وَالِاتِّصَالَ لَا حَقِيقَةَ لَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ، فَلَا حَقِيقَةَ لَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ فِي وَهْمِ الْمُكَاشِفِ، فَأَيْنَ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ؟ إِنَّمَا الْوَهْمُ وَالْخَيَالُ قَدْ حَكَمَا عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ. وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ الشَّيْخَ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ هَذَا الْإِلْحَادُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ كَشَفَ عَنْ مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ: " وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنْ شُهُودِ مُزَاحَمَةِ الِاتِّصَالِ عَيْنَ السَّبْقِ " أَيْ: يَنْفَصِلُ عَنْ شُهُودِ مُزَاحَمَتِهِ لِاتِّصَالِهِ عَمَّا سَبَقَ فِي الْأَزَلِ مِنَ الْأَوَّلِ الْآخِرِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا لَاحَظَ السَّبْقَ وَمَا تَقَرَّرَ فِيهِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَمْ يُزَاحِمْ شُهُودَ اتِّصَالِهِ لِشُهُودِ مَا سَبَقَ لَهُ بِهِ الْأَزَلُ، بَلِ اضْمَحَلَّ فِعْلُهُ وَشُهُودُهُ وَوُجُودُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوُجُودِ الْأَزَلِيِّ، بِحَيْثُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا نُسِبَ فِعْلُهُ وَصِفَاتُهُ وَوُجُودُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوُجُودِ اضْمَحَلَّ وَتَلَاشَى، وَصَارَ كَالظِّلِّ وَالْخَيَالِ لِلشَّخْصِ. قَوْلُهُ: فَإِنَّ الِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ- عَلَى عِظَمِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالرَّسْمِ- فِي الْعِلَّةِ سِيَّانِ. مَعْنَاهُ: أَنَّ مَعْنَى اسْمِ الِاتِّصَالِ يُضَادُّ اسْمَ الِانْفِصَالِ كَمَا يُضَادُّ اسْمُهُ اسْمَهُ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْعِلَّةِ؛ أَيْ: رُؤْيَةُ الِاتِّصَالِ عِلَّةٌ، وَرُؤْيَةُ الِانْفِصَالِ عِلَّةٌ، فَتَسَاوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ تَضَادَّا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
|